كثيرا عندما نتأمل أو يتأمل الآخرون ملامح أطفالنا؛ يؤكدون أنهم تماما قطعة من أبيه أو عمه أو خاله أو حتى جده الذي مات منذ زمن بعيد قبل أن يولد طفلنا. فالطفل يرث ملامح أهله وأقرب الأهل هم الأب والأم. وقد يمتد الأمر ليري البعض أن الطفل يرث أيضا السلوكيات والتكوين النفسي. فنراهم يقولون أن عائلة فلان: طبعها حامي، أو عائلة عصبية، أو أنهم يثارون سريعا، بينما عائلة أخري مثقفة أو هادئة الطباع، وكأن كل أفراد هذه العائلات قد توارثوا صفات العصبية أو الهدوء أو اتساع الثقافة. وكان العلماء منذ فترة قد أشاروا إلي أن الإنسان لا يرث فقط التكوين والملامح والشكل من آباءه وأجداده، وإنما يرث أيضا المعرفة والقدرات وكل ما تعلمه الإنسان خلال التاريخ البشرى. معنى ذلك ببساطة شديدة أن ابنك أو حفيدك لا يرث فقط ملامح أسرته، ولكنه يرث القدرات والمهارات وكل ما تعلمه البشر على مر العصور! ومن الحقائق العلمية المسلم بها والتي يعرفها كل الأطفال في المدارس أن الخصائص العامة للأجناس تتكرر مرة بعد أخرى، ومن جيل إلى جيل من خلال خلايا لها تكوين معقد لا ترى إلا "بالميكروسكوب"وتتحدد الصفات في"كروموزومات" داخل النواة يطلق عليها حاملات الصفات الوراثية.
ولكن هل الذكاء يرتبط بالصفات الوراثية والجينات؟ أم أنه مهارات عقلية مكتسبة تتكون من الخبرات وتراكمات المعرفة والحياة وتساعد البيئة في تنميته. وإذا كان الذكاء بالوراثة؛ فهل الحديث عن أن هناك جينات للغباء يمكن تغيير صفاتها الوراثية لتتحول لجينات ذكاء حقيقة أم مجرد خيالات وأحلام تراود من يعاني أطفالهم من الإعاقات العقلية.
د.ناصر كمال المغربي " استشاري الطب النفسي قال:"إن الذكاء يرتبط بالفص الأمامي للمخ، وهذا الفص هو المسؤول عن إدارة الشعور بالإجهاد والضغط وارتفاع مستوى التركيز أو انخفاضه. أما الفص الأيسر فهو المسؤول عن قرارات وقدرات الإنسان الحركية إضافة إلى وظائف أخرى ليس من بينها الذكاء. وقشرة الدماغ هي المسؤولة عن بناء الدماغ، وتنقسم إلى أكثر من 50 منطقة، كل منطقة منها مسؤولة عن وظيفة محددة، فهناك المنطقة التي تدير اللغة وأخري تدير الحركة، والمنطقة التي تدير الذاكرة والمنطقة التي تدير التفكير.
وأشار د. ناصر إلي أن الذي الجينات التي يتوارثها الإنسان والموجودة في النصف الأول من الدماغ تؤثر في ارتقاء درجة الذكاء بنسبة معينة، وتكتمل النسبة من خلال التعلم والحصول على التجارب. فالوراثة ليست هي العامل الوحيد الذي يحدد مستوى ارتقاء الذكاء الإنساني؛ ولذا فإن الحديث عن استخدام الهندسة الوراثية لعزل الجين المسؤول عن الغباء هو كلام مغلوط؛ لأن الغباء هو مزيج من السلوك الشخصي والحركة ودرجة استخدام الذكاء. وإذا كان الذكاء يخضع لجزاء بيولوجي، فإن أغلبه اجتماعي بيئي، فالأطفال الأذكياء الذين يتربون في بيئة فقيرة ذهنيا وتعليما واجتماعيا وماديا تموت لديهم الحواس، فلاهم يرون ولا يشاهدون برامج راقية، ويتعاملون مع قدر غير قليل من العنف اللفظي والجسدي والمعنوي يحط من ذكائهم ومن شخصيتهم.
وأكد د.ناصر أن هناك برامج للذكاء والتي تقدمها المراكز النفسية، وهي تعنى ببساطة مجموعة من التمرينات الذهنية المتدرجة تدريب الذهن لاستخدام أقصى طاقاته العقلية في توازن جميل، مع رفع كفاءة الذكاء. وهناك طرق كثيرة لتنمية الذكاء تختلف تبعا للمرحلة التي يمر بها الطفل، فنجد هناك طرق متنوعة منها اللعب؛ لأنه يتيح للطفل ممارسه ما يتعلمه من البيئة التي تحيط به، هذا إلى جانب تطوير هذه المعارف والإضافة إليها، وهناك أنواع كثيرة من اللعب، منها: البدني، ومنها اللغوي، ومنها الخيالي، ولكن اللعب التخيلي له أثر كبير على تنمية الذكاء لذا يجب تشجيعه. كما أن التربية البدنية والنشاطات المدرسية له فوائد وأهميه كبيرة بالنسبة للطفل؛ لذلك علينا أن نتيح الفرصة للطفل كل أنواع اللعب وألعاب الفك والتركيب التي تساعده علي أن يبتكر أشكالا جديدة. كما أن القصص تعطى فرصة كبيرة لينمى الطفل قدراته وذكاءه اللغوي، حيث يكتسب الكثير من المفردات ويتعلم طرق جديدة للتعبير، سواء الشفوي أو الحركي، كما أن القصص تعطيه فرصه ليتعلم التسلسل المعرفي للأحداث والسبب والنتيجة.
وإشراك الطفل في المحاورات يعطه الفرصة ليمارس اللغة، ويكتسب المزيد منها، بجانب أنها تمنحه الثقة بالنفس والتعبير عنها في مواجهة الآخرين، وعلينا أن نعطى الطفل كل الفرص التي يمكن من خلالها أن يتعلم الكثير عن بيئته و ينمى ذكائه، وعلى الأم أن تجيب على أسئلة طفلها حتى لو كانت حرجة؛ حتى لا تعيق تنمية الذكاء عنده، وعليها أن تعطيه الوقت الكافي للاستكشاف وألا تدعه يجلس طويلا أمام التلفاز.
ويضيف د. ناصر أن البيئة تلعب دورا كبيرا في تشكيل سلوك الفرد وطرق تفكيره وتكوين شخصيته؛ لأن البيئة تؤثر على الطفل منذ اللحظة الأولى من إخصاب البويضة ووصولها إلى جنين، ثم خروجه إلى الحياة وما بعدها ونشأته، فهي كل ما يحيط بالطفل من عوامل اجتماعية ومادية وثقافية، فثقافة الوالدين والحياة الأسرية المستقرة والوضع الاقتصادي والتوجيه النفسي والحياة الاجتماعية العامة والتعاليم الدينية والقيم والعادات والأعراف لها تأثير كبير على تكوين وتشكيل شخصية الطفل والتي تظهر من خلال سلوكياته في التعامل مع الآخرين.
وتؤكد د. صفاء عبد القادر " أستاذ الطب النفسي والعصبي" أنه لا يكاد طفل يخلو من لمسة ذكاء قد تتكاثر بفعل التأثير الأسرى والمدرسي والبيئي، وقد تتبخر مع أسس التشتت والتهديد والقسوة في غير محلها، ولاشك أن الجينات تلعب دورا أساسيا في كل شيء، حتى في السلوك والاستعداد والقدرات العقلية.
وتوضح د صفاء أن وراثة الذكاء أو الغباء ترجع إلى ما قبل الولادة، حيث يوجد أسباب كثيرة تؤدى إلى التخلف العقلي للطفل ومنها ما تتعرض له الأم الحامل من نقص التغذية الشديد، مما قد يصيب الجنين بأضرار شديدة؛ فنقص اليود في غذاء الأم قد يؤدى إلى إصابة الجنين بالتخلف العقلي من نوع الكريتيزم. كما أن الإصابة بالفيروسات المعدية وخاصة الحصبة الألمانية في الثلاثة شهور الأولى قد يؤدى إلى الصمم. وتؤدي إصابة العين بالمياه البيضاء وتعاطى بعض المواد الكيميائية أثناء الحمل أو تعاطي جرعات كبيرة من الأنسولين إلى نقص شديد في السكر مما قد يصيب الجنين بالتخلف العقلي. وتعرض الأم الحامل لمصادر الإشعاع يؤدى إلى إصابة الجنين بالإعاقة العقلية، أو بأمراض أخرى. وتلوث الهواء والماء من العوامل التي تؤثر على نمو الجهاز العصبي المركزي لدى الجنين.
وكذلك فمن المراحل التي تحتاج لحرص وتؤثر الأخطاء بها علي القدراتالعقلية للطفل مرحلة الولادة " فالولادة العسرة " التي قد تؤدى إلى الاختناق، وإصابة المخ تسبب الإعاقة العقلية كما قد تؤدى إلى الصرع. ونقص الأوكسجين أثناء عملية الولادة قد تؤدى إلى موت الجنين أو إصابته بإحدى الإعاقات في حالة إصابة القشرة الدماغية للجنين.
وحول سبل تنمية الذكاء لدي الأطفال تري د. صفاء أن الطفل منذ ولادته يجب والتركيز على الرضاعة الطبيعية، حيث يعتبر لبن الأم عنصرا أساسيا لتغذية الدماغ، كما أنه يضاعف من نسبه الذكاء لدى الأطفال، وقد ثبت أن الأطفال الذين أتيحت لهم فرصه الرضاعة الطبيعية يكونوا قادرين على تطوير قدراتهم الطبيعية بشكل أكبر من غيرهم.
وتضيف د.صفاء أنه لابد من مقاطعه الوجبات الجاهزة تماما، خاصة الغنية بالدهون والسكر، والتركيز على تناول الطفل للأطعمة الصحية الغنية بالفيتامينات والمعادن القادرة على تعزيز النمو العقلي والحركي لدى الأطفال خاصة في المراحل الأولى من حياتهم؛ لأن افتقار الأطفال للغذاء الصحيح يضعف مناعتهم ويقلل من قدراتهم على مقاومة الأمراض.
والأطفال الذين يمارسون ألعاب الفيديو تساعدهم في تنمية مهارات التفكير والإبداع، وتشجعهم على العمل الجماعي.
وممارسة الطفل للأنشطة الرياضية في إطار منظم يعزز ثقتهم بأنفسهم وينمى فيهم روح القيادة وحب العمل الجماعي.
وأشارت د.صفاء أن تنمية الذكاء تتوقف علي حصول الطفل على العطاء المفيد، وفق قواعد وأصول تعود الطفل على التركيز والعمل النافع بضوابط عقلانية تفيد العقل كما أن الطفل يحتاج إلى أسرة خلاقة ومتفهمة مثقفة ومتعلمة ويحتاج أيضا إلى مدرسة تستطيع تكوين أجيال متفتحة العقول وطليقة الفكر. ويحتاج الطفل معلما محبا لمهنته وعمله، ويحتاج لمجتمع مدرك لمعاني الإنسانية البحتة، من حيث قيم الجرأة بالرأي والنقاش الحر. والمطلوب في هذا العصر هم المبتكرون والمكتشفون وأناس لديهم القدرة على التخيل وسرعة التغيير.