استوقفتني قصة ذلك الأب الذي رزقه الله ابناً جميلا ومؤدبا إلا أن به من شقاوة الأطفال ولطفهم ما يأنس به كل أبٍ وأم في مثل سنه في ذات يوم قام هذا الأب بتغيير أثاث منزله، فاشترى أبهى الأثاث وأحلاه، وعند عودته من العمل فوجئ بأن ابنه صاحب الخمس سنين قد لعب بالأثاث فكسر منه قطعة رآها أخلت بمنظره الجذاب ، فما كان منه إلا أن أمسك بابنه لكي يؤدبه فأوثق يديه الاثنتين بحبلٍ وشدهما شداً وثيقاً، فما جاء المساء إلا والطفل قد أغمي عليه من شدة الصراخ والبكاء والألم وانحباس الدم .
وفي المستشفى رأى الأطباء بأن حالة التسمم والتصلب التي أصابت اليدين تستدعي بترهما وليس هناك خيارٌ آخر فما كان من الوالد بكل حرقة وألم إلا أن يرضخ لهذا الأمر، وعندما فاق الطفل بعد العملية في اليوم التالي نظر إلى من حوله وهو لا يعلم أين هو؛ فآخر شيء يتذكره هو وقع العصا على ظهره وركلات والده الشديدة على جسمه، ثم وقعت عيناه على ذراعيه فلم يجد كفيه ولا أصابعه، فأطلق صرخة مدوية وبكاءً شديداً وأخذ يبكي أمام والده ويقول له راجياً وهو يبكي وبكل براءة الأطفال: أبي أعد إلي يدي .. والله لن ألعب في الأثاث مرة أخرى !!
جبروت بعض الآباء يدفعهم في لحظات طيش إلى تصرفات قد تعكس حسرة وندامة طوال العمر، فالأب يفترض منذ خروج ابنه إلى الدنيا أنه يجب أن يسير وفق نظام معين لا يخطئ فيه ولا يحيد عنه !! نعم إن النظام والترتيب شيء مطلوب، ولكن الدنيا وما فيها ناقصة لا اكتمال فيها أتريد من طفلٍ ضعيف أن يكون عكس سنن الكون، هل تريد أن تقول بأنك أنت نفسك سائرٌ في حياتك دونما تعثر أو تيهٍ في بعض الظروف..
الرفق بالأبناء مطلب رباني إسلامي قبل أن يكون غريزة أبوية أو رسالة تربوية ؛ فالرفق واللين في التعامل مع الأبناء من شأنه أن يسهم في بناء شخصية جادة قوية لها تأثيرها ولها رأيها ولها عطاءها في الحياة، بعكس ما تخلقه الشدة في التعامل والجفوة في التربية، والقسوة مع الأبناء ، وقد وصل أمر الرفق بالأبناء إلى درجة أنه كان أساساً في تعيين الولاة وعزلهم في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد جاء في الأثر أنه دخل عامل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فوجده مستلقياً على ظهره وصبيانه يلعبون على بطنه، فأنكر ذلك عليه، فقال له عمر: وكيف أنت مع أهلك؟ قال: إذا دخلت سكت الناطق، فقال له عمر: اعتزل ، فإذا كنت لا ترفق بأهلك وولدك فكيف ترفق بأمة محمد صلى الله عليه وسلم .
وروى شداد عن أبيه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء، وهو حامل حسنا أو حسينا، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه، ثم كبر للصلاة فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي، وإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس: يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك، قال: كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته) .
هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم قائد الأمة أجمعها وهو ساجد بصحابته رضوان الله عليهم أشراف أهل الأرض أطال السجود حتى ينزل من على ظهره الطفل !!
أنظر إلى حال أحدنا إن ابتسم في وجهه طفله وهو قائم في الصلاة كيف سيقابل الأب تلك الابتسامة ؟! إنك ستجد زمجرة ما بعدها زمجرة، وتكشير أنياب، ورفع حواجب، وشرر يتطاير من العينين حتى يعود الطفل أدراجه على أطراف أصابعه لا يدري ما الجرم الذي فعله. عندما تغيب عن عقل الإنسان حقيقة وجوده في هذا الكون، يغيب معه كل شيء حتى أبسط شيء وأهم شيء . وهو كيفية تربية أبنائه.