عندما كنت أحضر للدكتوراة في الولايات المتحده الأميركية ارتبطت بعلاقة صداقه باحدى زميلات الصف والتي تدعى ديبرا لويس. كان لديبرا طفلان وكان الطفل الأصغر ديفيد (7سنوات) يقضي أحيانا معي عطلة نهاية الأسبوع، وقد كان طفلا جميلا وذكيا يحب الحركة واللعب مثل باقي الأطفال الذين هم في سنه .
في احدى المرات جاءت ديبرا لزيارتي وهي غاضبة من مدرسة ديفيد حيث أن المدرسين والأخصائيين الذين يتعاملون معه يشتكون من كثرة حركته وقلة انتباهه في الصف، وبناء عليه تم عرض ديفيد على الطبيب المسئول وتم تشخيصه على أنه يعاني مما يسمي باضطراب النشاطالزائد وعدم القدرة على التركيز والانتباه، وبالتالي لابد من البدء في إعطائه دواء «الريتالين» لتهدئته وزيادة تركيزه.
رفضت ديبرا ذلك وأصرت بان طفلها سليم ولن تجعله يتناول أية أدوية، وأخبرتهم بأنها عندما كانت في سنه كانت بالقدر نفسه من الحركة والنشاط. اليوم ديفيد في السابعة عشرة من عمره وفي كامل طبيعته وقمة عطائه. في الأسابيع الماضية عقد أحد المستشفيات الخاصة في الدولة ندوة حول ما يسمى باضطراب النشاطالزائد عند الأطفال، والمعروف باضطراب الانتباه )ء( ثم تلا ذلك مقال في احد الملاحق الصحية التابع لأحد جرائدنا المحلية يدور أيضا حول الموضوع نفسه، مما أثار اهتمامي وخوفي في الوقت نفسه.
خاصة وان الخلفية والمعرفة التي أمتلكها حول هذا الموضوع تكاد تكون متناقضة مع ما تم تسويقه في كل من الندوة والمقال. فكلتا الفعاليتين لم تسلطا الضوء إلا على جانب من هذه القضية الصحية وأهمل الجانب الآخر المثير للجدل والداعي لعدم أخذ الأمور على عواهنها وضرورة الحذر من كل ما يسوق، حتى لو كان «علميا» أو «طبيا».
وما زاد من خوفي هنا أننا كمجتمع نعاني من ضعف الوعي الصحي والطبي وقلة البحوث العلمية في هذا المجال، بالإضافة إلى افتقارنا لمؤسسات المجتمع المدني والحركات المجتمعية الناشطة التي تقف عادة وتتحدى أكثر المؤسسات رسوخا ومصداقية، مثل المؤسسات الطبية ـ كما هو الحال في المجتمعات التي يوجد بها مثل هذه المؤسسات ـ متى استشعرت وتأكدت من خطر بعض ممارسات هذه المؤسسات على الفرد.
وقبل مناقشة الجانب المخفي من هذه القضية الصحية دعونا نتعرف على ما يقصد باضطراب النشاط الزائد. كثير من الأدبيات المتعلقة بالموضوع تعرفه بأنه «مرض» نفسى ـ عصبي يصيب الأطفال قبل أو بعد سن المدرسة، وتتمثل أعراضه في نشاط ملحوظ عند الطفل، مثل، حركة زائدة لا يمكن السيطرة عليها مصاحبة بتغير في المزاج وصعوبة الضبط، وهو كثيرا ما يظهر على الذكور دون الإناث.
أسباب حدوثه غير معروفة حتى الآن، ويعالج الأطفال الذين يتم تشخيصهم بهذا «المرض» بأدوية كيميائية مثل ما يسمي «بالريتالين»، والتي لها أعراضها الجانبية السيئة التي تصل حد الموت. الجانب الذي أغفل طرحه على ساحتنا المحلية هو أنه منذ بداية ظهور هذه الحالة «المرضية» وهناك جدل واختلاف كبير حول حقيقتها ومصداقية تشخيصها، لدرجة ان المجتمع الطبي الغربي ينقسم إلى قسمين بين مشكك ومؤيد.
وبالرغم من هذا الشقاق واختلاف ادلة وبراهين المشككين والمؤيدين، إلا أن هناك اتفاقاً بين الجميع بأن أسباب المرض غير معروفة، وبأن معايير تشخيصه نوعا ما غير واضحة ويختلف العاملون في المجال على تفسيرها وتطبيقها. وبأن الدواء المخصص لعلاج هذه الحالة له مخاطره القصيرة والطويلة المدى على الطفل. المؤيدون لا تختلف رؤيتهم عما طرح على ساحتنا المحلية، وهي التعامل مع هذه الحالة على أنها مرضية وبحاجة لعلاج طبي.
أما المشككون فيؤكدون بالأدلة والبراهين العلمية على أن هذه الحالة شيء تم اختراعه ولم يكتشف، وان عملية الترويج لتشخيصه مرتبطة أكثر بأسباب اقتصادية وسياسية وليس طبية. فلا يوجد هناك معايير تشخيصية واضحة لهذا المرض، أي لا توجد له أعراض جسدية أو دلالات عصبية، ولا تحليل دم أو أشعة يمكن الاستدلال بهما على وجود المرض من عدمه.
يقول الدكتور بوب جاكوب ان تفسير رفض انصياع أطفالنا للأوامر أو التصرف بعكس ما نأمرهم به، أو رفض أداء واجباتهم المدرسية، بأنه مرض عصبي لهو مشكلة كبيرة، لأنها تعني في النهاية وضع الآلاف من أطفالنا تحت رحمة الأدوية الكيميائية القاتلة بشكل اعتباطى. حيث أن معايير تشخيص هذه الحالة ليس لها مصداقية ولا يمكن الاعتماد عليها، وعندما يصرح المجتمع الطبي في كل من استراليا وأميركا بأن أسباب هذه الحالة غير معروفة وأنه لا يمكن اثبات وجود هذا المرض من عدمه.
فكيف لنا أن نصدق أو نعتمد على معايير تشخيصية غير واضحة. وكنتيجة لاشتداد المعركة حول حقيقة هذا «المرض» بين المؤيدين والمشككين طرح كقضية طبية على البرلمان الاسترالى. وعندما سأل رئيس قسم الطب النفسي في مستشفى الأطفال والنساء بجنوب أستراليا الدكتور جون جيريدين أمام احدى لجان البرلمان عن حقيقة هذا المرض قال بأنه شيء مختلق ومزيف.
إضافة إلى ذلك تم اغفال طرح النتائج الخطرة للدواء الذي يصرف «لعلاج» هذه الحالة، فكما ذكرت سابقا، يصرف دواء الريتالين لمثل هذه الحالات وهو دواء، كما تقول الدراسات، شبيه في تركيبته العقاقيرية للكوكايين ويعمل على اخضاع وتسهيل قيادة الأطفال، سواء المشخصين بالاصابة أو «الطبيعيين» منهم. فتحت تأثير هذا الدواء يكون الأطفال أكثر هدوءا وطواعية لارضاء مدرسيهم وأبويهم، ولكن على حساب صحتهم الجسدية العامة.
فاحدى نتائج استخدام هذا الدواء لفترة طويلة، التوقف المفاجئ للقلب، وهذا ماحدث لستيفاني هال من ولاية أوهايو وماثيو سميث من ميتشغان. حيث أن هذا الدواء يحتوي على مادة الامبيتامين، وهذه مادة لها تاريخ طويل في ايقاف القلب المفاجئ حتى عند الأطفال. وهناك مخاطر أخرى كثيرة جسدية ونفسية لهذا الدواء لا يسعني ذكرها هنا.
ولكن من الجدير بالذكر أن الدراسة التي قامت بها نادين ليمبرت من جامعة كاليفورنيا بيركلي (قامت بدراسة 500 طفل على مدى 26 سنة) أثبتت ان الريتالين يعتبر البوابة لاستخدام مخدرات أخرى، وبالذات الكوكايين. وذلك لأن الريتالين يجعل الدماغ أكثر تقبلا وعرضة لقوة الكوكايين الادمانية ويضاعف مخاطر سوء استعمال هذه الكيماويات.
المستفيد الأول والأخير من الترويج لاضطراب النشاطالزائد هي شركات الأدوية المصنعة للريتالين وغيره من الأدوية المشابهة. حيث تزيد فوائد بيع هذا الدواء في الولايات المتحدة الأميركية فقط على 600 مليون دولار سنويا. وهذا دافع قوي لاستمرار دعم البحوث التي تؤكد على ان «شطانة»، الأطفال، كما نسميها، مرض ولابد من علاجه.
هذا بالاضافه إلى أن إهمال بعض الأهالي وجهلهم بمتطلبات وحاجات أبنائهم النفسية والاجتماعية، وعدم قدرتهم على تفهم سلوكيات أبنائهم واحتوائها بالشكل الايجابى، يجعل تصنيف أبنائهم بأنهم مضطربون نفسياً وسلوكياً وبحاجة للعلاج، الوسيلة التي سوف تعفيهم من مواجهة عجزهم وحقيقة أنهم آباء غير أكفاء.
كذلك المدرسون الذين يكونون أحيانا عاجزين عن إعطاء كل تلميذ العناية التربوية الكافية أما بسبب الكسل وعدم المبالاة أو لكثرة اعداد الطلبة، بالتالي وجود التلميذ المشاغب وكثير الحركة قد يجعل مهمة هذا المدرس أكثر صعوبة. وفي هذه الحالة يكون تصنيف الطالب بأن لديه نشاطاً زائداً وقلة تركيز، وتسكينه بالريتالين وسيلة رائعة لجعل مهمة المدرس أكثر سلاسة وسهولة، ولكن على حساب صحة الطفل المستقبلية.