فطر الله الأمهات على الرحمة, والرأفة واللين, وحينما تشتد ضغوط الحياة, وتزداد الأعباء على الأم, فإنها قد تنحرف عن فطرتها, وتجنح عن رأفتها, لتتحول الى امرأة غضوب قاسية, دائمة الصراخ والثوران...ويترك هذا الانحراف آثارا سيئة في نفوس أبنائها, تتمثل في انطواء وعزلة, أو عدوان وانتقام وكراهية.
تعترف ربا ذات الأحد عشر ربيعا, بأنها ترتكب أخطاء كثيرة في المنزل, عن غير قصد ولا تعمد, فربما تكسر صحنا, أو كوبا, أو تغير ترتيب شيء من أثاث المنزل, لكن امها لا تمهلها, وتسارع الى توبيخها ونهرها, ويصل صراخها من أقصى المنزل, كأنها تراها من خلف جدرانه, تقول: " ولا أدري كيف تراني وتراقبني, أو كيف علمت بما فعلت! وهذا يشعرني بأنني مراقبة, فأبقى صامتة أكثر الأوقات كأنني قطعة أثاث, وحين تأتي رفيقاتي, أو بنات خالاتي لزيارتي يختلف الوضع تماما, ويصير المنزل كأنه ساحة سيرك, لا يرى فيها سوى المهرجين يقفزون في كل مكان".
أما أحمد في الثانية عشرة من عمره, ففرض عليه ان يكون شابا دون ان يعيش طفولته, وكان كلما شرع في اللعب, أو الترفيه, رشقته امه بما لا يرضيه من ألفاظ وأوصاف محرجة, فهي لا تحب أن ترفع قشة من مكانها في المنزل, فتحول المكان الذي يفترض أن يكون دافئا وسكنا الى سجن صغير في العالم الكبير, يكاد يخنقه, وأصبحت أيام الاجازات أيام وحدة وعزلة. وأما نايف, عشر سنوات, فيقول:" إن الصديق الوحيد الذي صرت الازمه, دون شكوى من والدتي, هو جهاز صغير يوصل بشاشة التلفاز, إنه جهاز الالعاب الالكترونية (بلاي سيشن) وعند جلوسي اليه لا يسأل عني أحد إلا وقت الغداء, وامي راضية عني لأنني لا أسبب أي ازعاج, أما في السابق, فكان لعب الكرة وبعض الالعاب الآخرى تزعج امي وتجعلها تصرخ, مع أنني كنت أجد في ممارستها سعادة وبهجة كبيرة".
وترى نهى , م, ربة منزل- 33سنة, أن الضغوط النفسية التي تواجه المرأة هذه الأيام كبيرة جدا, سواء كانت موظفة أم غير موظفة, ولا تلقى المرأة غالبا من زوجها أي مساعدة في تربية الاولاد, بل على العكس يلقي العبء كله عليها وحدها, ويحملها المسؤولية كاملة, ويحاسبها على أي تقصير يبدر منها, وهذا يجعل المرأة في حالة من الاضطراب, والضيق النفسي, يتجلى في سلوكها مع أبنائها, فيغلب عليها الغضب والانفعال. والحدة, والصراخ. وتوافقها أم أروى, ربة منزل-54 سنة, قائلة: إن الام حينما تغضب, وتؤنب اولادها وتنهرهم, تفرغ بذلك ما في داخلها من طاقة سلبية متراكمة بسبب ضغوط الحياة, مع أنها تدرك خطأها, وأنه اسلوب غير سليم في تربية الابناء, فهم أطفال صغار لا ذنب لهم فيما يجري, وهم ضحية الظروف وتعقد الحياة.
ويعترض المهندس محمود موسى بشدة على صراخ المرأة في وجوه أبنائها, ويرى ان ارتفاع صوتها في البيت أمر مرفوض, ويقول:" إن الله سبحانه كرم الانسان عموما, والمرأة خصوصا, وحفظ لها في الشريعة الاسلامية الكثير من الحقوق, فلم تهدرها بصوتها العالي, وتجر على نفسها وعلى أسرتها خلافات ومشكلات تسري فيها مسرى النار في الهشيم؟". ويضيف المهندس جمال محمد قائلا:" إن الحياة ملأى بالمشكلات والمنغصات, وتواجه الأسر الكثير منها, ويلقي على عاتق المرأة من الأعباء والمسؤوليات ما يرهقها, فيجعلها مضطربة متوثبة, مثل قائد جيش يصيح في جنوده, يأمرهم وينهاهم ويزجرهم, فيكون ذلك سببا لكثير من المشكلات الأسرية, ونفور الرجل من االبيت, وطبول الحرب التي تقرع فيه باستمرار".
بحسب د.مصطفى كامل, استشاري الطب النفسي, فإن صورة الأم وصوتها يرتبطان في أذهان أطفالها بالحنان والرحمة والدفء, ولكن حينما تكون الأم غضوبا, سريعة الانفعال والثوران, فإن صورتها في أذهان أطفالها ترتبط بالشدة, ورفع الصوت والصراخ! ويؤثر ذلك كله, بلا ريب, في نفس الطفل, وتكوينه الداخلي الفطري, فيحدث عنده انطواء وعزلة, نتيجة فقد الثقة, وضعف الشعور بالأمان في الأسرة, والمجتمع, أو يحدث نقيض هذا فيصير الطفل عدوانيا, حاقدا على الآخرين. إن تأثير ذلك لا يقتصر على الأطفال فقط, ولكن يشمل الأسرة كلها, إذ تصاب بحالة من التشتت, والانهيار في العلاقات بين أفرادها, وتخفق لغة الحوار في توثيق عرى التفاهم, ويحل مكانها الشجار, والغضب, ورفع الصوت, والفرض بالإكراه, ويفضي ذلك الى خلافات, ومشكلات دائمة, وكراهية الأب والاولاد والبيت, والحياة الأسرية.
ولا يخفى أن غضب الأم الدائم وصراخها في وجه الأبناء ناشئ عن أسباب كثيرة, أهمها: ضغوط الحياة, ومشكلات العلاقة الزوجية, وضعف تفهم زوجها احتياجاتها, وضيق الصدر, وقلة الصبر, وعدم الالتزام بآداب الشرع الاسلامي الحنيف, وقد يكون أحيانا بسبب مرض نفسي, مثل: القلق أو الاكتئاب. وعلى كل من الزوجين مسؤولية كبرى لرأب هذا الصدع, وتصحيح مسار مركبة الأسرة, ودورهما هو الأساس في تحقيق الاستقرار, وإشاعة روح المحبة والتفاهم والوداد من خلال إتاحة الفرصة للحوار بين الجميع, مع احترام كل فرد لرأي الآخرين, والتعاون على البر والتقوى وما فيه المصلحة العامة.