فى الأيام الأخيرة خاصة ساد بين جماهير الثورة اطمئنان مفاجئ أن لديهم فرصة كبيرة للفوز بكرسى الرئاسة.. غذى هذا الاطمئنان من ناحية النتائج الأولية لتصويت المواطنين فى الخارج التى أسفرت عن تقدم واضح لمرشحى الثورة، ومن ناحية أخرى صعدت فى الداخل أسهم بعض هؤلاء المرشحين على نحو ملحوظ، فى حين حوصر مرشح الفلول الأول فى أكثر من موقع، وألغيت بعض مؤتمراته، وبلغ الأمر فى إحدى المرات أن أُلقى حذاء على منصته.
هذا الاطمئنان مجرد شعور كاذب. رغم أن تصويت المصريين فى الخارج قد يعطى بعض المؤشراتر فإنه ليست له أى دلالة مهمة.. أولاً: هم لا يمثلون سوى نسبة ضئيلة للغاية من جملة الناخبين، فعددهم لا يزيد على نحو 600 ألف بين نحو 51 مليون ناخب مسجلين فى الكشوف، كما أن أكثر من نصفهم لم يذهب إلى صندوق الانتخابات لسبب أو لآخر.. ثم إنهم يعيشون فى ظروف مختلفة تماما عن تلك السائدة فى مصر.. يحسون بإحساس أولئك الذين يعيشون داخل البلد، نعم، ولا يقلون عنهم انتماء بالتأكيد، لكنهم لا يخضعون لمؤثرات البيئة الضاغطة فى الداخل، كما أنهم يتنفسون قيما مغايرة لتلك التى نحياها ليل نهار.
الاطمئنان إلى تقدم مرشحى الثورة وإلى تراجع الفلول فى الداخل هو الآخر قد يكون مجرد وهم.. حصار مرشح الفلول فى مسجد أو خروجه من الباب الخلفى لمؤتمر قد لا يكون بالضرورة مؤشرا يعتد به.. من المؤكد أنه يبعث على الراحة، لكننا نغفل حقيقة مهمة إذا حمّـلناه أكثر مما يحتمل.. الحقيقة التى يجب الاعتراف بها هى أن هناك تحولا كبيرا فى اتجاه الرأى العام منذ فبراير 2011.. كثيرون لم يعودوا متأكدين أن الثورة جلبت لمصر الخير بالفعل.. كل ما يعرفونه أن البلد غرق فى الفوضى لأكثر من عام: الأمن غائب، والاقتصاد متعثر، وعموم الأحوال لم تتحسن إن لم تكن قد تدهورت.. ولا أحد يلقى بالا للأسباب فى هذا كله، سواء كانت ميراث ثلاثين سنة من الفساد والاستبداد والتجريف والنزيف، أو كانت مخططا يقوده الجاثمون على رأس السلطة الذين ينتمون لنظام مبارك، أو كانت فشل حكومة بعد حكومة بعد حكومة، أو كانت انشغال الأغلبية البرلمانية بمصالحها الضيقة عن مصلحة الوطن، أو كانت التوابع المتوقعة عادة بعد زلزال هائل كزلزال الثورة، أو كانت بعض حماقات الثوار أنفسهم.. لا يهم.. المهم بالنسبة لهم أن البلد يبدو كما لو كان قد تفكك، وأنه فى حاجة إلى تربيط، وأن هذا التربيط لا يمكن أن يقوم به سوى ما يسمى الآن «رجل دولة» حتى لو كان هذا يعنى أنه فرعون جديد يجتاح ميدان التحرير بالدبابات إذا احتشدت فيه مظاهرة، ويدبر للثوار مكائد منتقاة من الصندوق الأسود لأمن الدولة، ويحشد بلطجيته لترويع المعارضين، ويطيح بكل الأحلام التى تفتحت يوم سقوط الطاغية، ويعيد أزلام لجنة السياسات ليحكموا مصر مرة أخرى، ويسرقوها مرة أخرى، ويقمعونا مرة أخرى.
هذا مخطط حقيقى يجرى تنفيذه الآن بهمة.. وقد نُشرت الأخبار والصور عن اجتماعات لا حصر لها للإعداد له، يقودها المتنفذون البارزون فى الحزب الوطنى المنحل لتأييد مرشح الفلول، منها اجتماعات فى نجع حمادى بحضور الشعينى، النائب السابق، والغول الذى هو الغول، واجتماع فى الشرقية ترأسه المصيلحى، وزير مبارك لشؤون طوابير الخبز، ومأدبة غداء لدى الفيومى، رئيس المجلس المحلى بالمنوفية، دُعى إليها 300 عضو، واجتماعات أخرى رصدت فى شرق القاهرة وفى الإسكندرية على الأقل، بخلاف الاجتماعات «السرية» التى تديرها إحدى زوجات أحمد عز.. وهناك أموال تتدفق من الداخل والخارج يتحدث عنها الكل ولا يمسك بها أحد.. وهناك مشروعات لقيام أحزاب وتشكيلات سياسية جديدة مشبوهة.. وهناك مع هذا وذاك، بل ربما قبل هذا وذاك، الأذرع الإعلامية للمخلوع التى خرجت من الشقوق مرة أخرى وأخذت تجاهر بالدس للثورة ومرشحيها.
كل هذا يجرى فى العلن، لكن ما هو أنكى يدبر فى الخفاء.. لعل أخطر ما يدبر فى الخفاء الآن هو اختراق الحملات الانتخابية لمرشحى الثورة.. تؤكد معلومات متوافرة لعدد من السياسيين أن عناصر تتخفى تحت أقنعة 25 يناير تسللت بالفعل إلى حملات معظم هؤلاء المرشحين، وأن مهمتها الأولى هى تخريب هذه الحملات من الداخل وتحريف اتجاهها، بحيث تبدو ملكية أكثر من الملك فى الدفاع عن مرشحيها، فى حين أن مهمتها الحقيقية هى الهجوم على المرشحين الآخرين من معسكر الثورة ذاته.
أعرف تماما أن اللعبة مكشوفة، وأنها قوبلت بالاحتقار الذى تستحقه، لكن المقلق فى الأمر هو أن بعض الصدور شحنت بالضغينة وأن التراشق بالتصريحات، المعلن والمستتر، على لسان بعض المرشحين أو على لسان حملاتهم، استمر على حساب الانتباه إلى مخططات حملات الفلول المضادة.. والأكثر إثارة للقلق هو أنه إن لم يكن لهذا التراشق، بسبب ضيق الوقت، تأثير كبير على حظوظ مرشحى الرئاسة الثوريين فى انتخابات الجولة الأولى بعد غد، فسوف تنعكس سلبياته على جولة الإعادة التى يبدو الآن أنها شبه مؤكدة.. إذا ما كان هناك مرشح للثورة طرف فى الإعادة فسوف تنحسر فرصه فى النجاح بعد تصدع صفوف الثوار فى الجولة الأولى.. هذا هو الخطر الذى يجب أن ينـتبه إليه اليوم مرشحو الثورة ومؤيدوهم.
يجب ألا تتوه بوصلتنا فى غمار المعركة المحتدمة.. خصمنا واحد هو بقايا نظام مبارك.. والتنافس بيننا سوف نخوضه بشرف.. أنا أناصر حمدين صباحى كما يعلم كل من يعنيه الأمر.. لكن خالد على وأبوالعز الحريرى وهشام البسطويسى هم رفاق الميدان، أصحاب تاريخ النضال الناصع.. وقد اضطررت لحجب صوتى عن الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح لخشيتى أن يصبح الدين سندانا لمطرقة السياسة، لكن عبدالمنعم أبوالفتوح لا ينتظر منى ولا من غيرى شهادة.. أنا على يقين أنه وصباحى وعلى والحريرى والبسطويسى سيظلون فرساناً كما عرفناهم دائماً.