الأول: في صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ذبح الشاة قال : (أرسلوها إلى أصدقاء خديجة) فذكرت له يوما ًفقال : (إني لأحب حبيبها).
الثاني: روت عائشة - رضي الله عنها - : قالت جاءت عجوز إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عندي فقال لها رسول الله : (من أنت)؟
قالت : أنا جثامة المزنية.
فقال : بل أنت حسانة المزنية، كيف أنتم، كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟
قالت : بخير، بابي أنت وأمي يا رسول الله.
فلما خرجت، قلت : يا رسول الله، تقبل على العجوز هذا الإقبال؟
قال : إنها كانت تأتينا من زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان.
الثالث : قالت عائشة : استأذنت (هالة بن خويلد) أخت خديجة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعرف استئذان خديجة وتذكره، فارتاع فقال (اللهم هالة بنت خويلد)، قالت (أي عائشة) فَغِرْتُ. فقلت : وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر فأبدلك الله خيراً منها) وحمراء الشدقين : أي سقطت أسنانها وبقيت حمرة اللثة.
عن هذه المواقف ترشدنا إلى أهمية خلق الوفاء في العلاقة الزوجية وأهميته كذلك في العلاقات الاجتماعية، وقد علمنا حبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم - كيف نكون أوفياء مع زوجاتنا وفي علاقتنا، فالوفاء إنما سمي بالوفاء، لما فيه من بلوغ تمام الكمال، وقد أمر الله - تعالى -به فقال {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا} الإسراء /24. كما وصف ربنا - تبارك وتعالى - إبراهيم عليه بهذا الخلق في سورة النجم الآية 37 فقال : {وإبراهيم الذي وفى}. فهو إذن خلق الأنبياء في الصدق في الكلام والصدق في المشاعر والصدق في الأفعال، ولهذا قال الشاعر عن الأوفياء:
إذا قلت فــي شئ (نعم) فأتمـــه *** فإن (نعم) دين على الحر واجب
وإلا فقل (لا) تسترح وترح بها *** لـئـلا يقــول الناس : إنك كـــاذب
فالوفاء بين الزوجين من دعائم استقرار البيوت وسعادتها، ويتحقق الوفاء في حال حياة الزوجين وحتى بعد وفاة أحدهما، ولكن في زماننا يعتبر الوفاء عملة نادرة في العلاقات الإنسانية.
وقد ذكر فيه سبع علامات تدل على وفاء الزوج لزوجته وهى:
1. دفع ما يوجه للزوجة من نقد يرى الزوج أنه لا مبرر للسكوت عليه، والتماس المعاذير ما أمكن، وهذا الدفاع يعظم قدره إذا كان في غيبتها، ومن أمثلة ذلك في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - دفاعه عن زوجته السيدة صفية - رضي الله عنها -.
2. عدم تطليق الزوجة بغير سبب معقول، ككبر سنها، أو مرضها، أو فقرها، أو تغير مركزه الاجتماعي، فليس من الوفاء أن تقطف زهرتها، ثم تتركها، وفى معنى الطلاق تغير معاملته لها على خلاف، أو التقدير للزوجة إلى ما بعد موتها.
3. امتداد الحب، أو التقدير للزوجة إلى ما بعد موتها.
4. إكرام صديقات الزوجة.
5. صلة رحم الزوجة وإكرام أقاربها.
6. الثناء على الزوجة والدعاء والاستغفار لها.
7. إنقاذ وصيتها بعد وفاتها : ولا شك في أن ما ذكرنا من وفاء الزوج لزوجته ينطبق كذلك على وفاء الزوجة لزوجها، بالإضافة إلى حفظ أسرار كل واحد منهما للآخر وحسن تربية الأبناء، وحفظ ممتلكات الآخر أثناء وجوده وعند غيابه، كل ذلك من الوفاء الزوجي.
فمن هدى النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - نتعلم وسائل الوفاء الزوجي وكذلك الوفاء الوالدي، كما ذكر ابن عباس - رضي الله عنه - أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : عن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، فأحج عنها؟
قال : نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيتيه؟
اقضوا لله، فالله أحق بالوفاء.
فهذه علامة من علامات الوفاء الوالدي بعد وفاتهما. وأما علامات الوفاء الزوجي فأحببت أن أؤكد على علامتين أرى أنهما في هذا الزمان الذي نعيش فيه مهمتان لغاية،وهما:
1. امتداد الحب والتعبير عنه بين الطرفين.
2. عدم التطليق من الرجل وعدم طلب الطلاق من المرأة من غير سبب.
ب هل الوفاء.. عدم الزواج بعد الوفاة؟
إنه سؤال خطير ومهم.. وهنالك مفهوم شائع بين الناس بأن الزوجة إذا توفيت ولم يتزوج زوجها بعدها فإن هذا من الوفاء، وكذلك الأمر بأن لا تتزوج بعد زوجها وفاء له.
وهذه مفاهيم غير صحيحة، وليس لها أصل في الدين والشرع، بل إن الدين يقر عكس ذلك، وهدي الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والصالحين يبين لنا أنه ليس من معاني الوفاء عدم الزواج بعد وفاة الزوج، فقد تزوج الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم - من خديجة - رضي الله عنها -، وكانت من قبله متزوجة من اثنين وتزوج من غيرها كذلك أم سلمة وأخريات كن متزوجات من قبله، وزوج ابنته الثانية (أم كلثوم) لعثمان - رضي الله عنها - بعد وفاة ابنته الأولى (رقية) - رضي الله عنها -.
وتزوج الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم - بسودة وعائشة - رضي الله عنها -، ولم يفت على وفاة خديجة شهر واحد، وتزوج على بن أبي طالب - رضي الله عنه - بعد وفاة فاطمة - رضي الله عنها - بسبع ليال.
فالزواج بعد وفاة أحد الزوجين ليس له علاقة بالوفاء، وأما لو أحب زوج أو زوجة أن لا يتزوجا بعد وفاة الطرف الآخر، فهذا قرار خاص بهما، ولكنه غير ملزم للآخرين.
وأما ما يشاع في أدبنا من قصص الوفاء بعدم زواج الزوجة بعد وفاة زوجها، فغير صحيح من حيث المعنى وليس الرواية فقد (خرج سليمان بن عبد الملك يرافقه يزيد بن المهلب إلى إحدى مقابر الشام، فإذا بامرأة جميلة تبكي، فنظر إليها سليمان معجباً بحسنها، فقال لها يزيد :
يا أمة الله هل لك في أمير المؤمنين؟
فنظرت إليهما ثم نظرت إلى القبر وقالت :
فإن تسألاني عن هواي فإنــه *** بحر ماء هذا القــبر يا فتيان
وإني لأستحييه والتراب بيننا ***كما كنت استحييه وهو يراني
فكلما ذكرنا فإن مثل هذه القصص قد تذكر وتتخذ الزوجة قراراً في نفسها بأن لا تتزوج بعد وفاة زوجها حباً له، وتصرفها صحيح، لكن الذي نريده أن لا ينسب تصرفها إلى عدم الوفاء فيما لو تزوجت ثانية، وأن توصم بأنها خائنة العهد.
ج وفاء فاطمة لزوجها:
من منا لا يعرف فاطمة زوجة الخليفة الخامس عمر بن العزيز - رحمه الله -.
فاطمة هي بنت الخليفة وزوجة الخليفة، وأخت لأربعة خلفاء، حتى قال فيها أحد الشعراء:
بنت الخليفة والخليفة جدها *** أخت الخلائف، والخليفة زوجها
هذه السيدة خرجت من بيت أبيها إلى بيت زوجها يوم الزفاف إليه وهى مثقلة يأثمن ما تملكه امرأة على وجه الأرض من الحلي والمجوهرات، ويقال إن من هذه الحلي قرطي مارية اللذين اشتهرا في التاريخ وتغنى بهما الشعراء، وكانا وحدهما يساويان كنزاً، وقد قيل إنه لو بيعت مجوهراتها لأشبعت بثمنها بطون شعب كامل برجاله ونسائه وأطفاله.
(ولكن كان أول قرار اتخذه زوجها أن يدخل في بيت مال المسلمين كل هذه المجوهرات والحلي واللآلئ والدرر)
ولما توفى عمر بن عبد العزيز ولم يخلف لزوجته وأولاده شيئاً، جاءها أمين بيت مال المسلمين وقال لها : إن مجوهراتك يا سيدتي لا تزال كما هي، وإني اعتبرها أمانة لك، وحفظتها لذلك اليوم، وقد جئت أستأذنك في إحضارها.
فأجابته بأنها وهبتها لبيت مال المسلمين طاعة لأمير المؤمنين ثم قالت : (وما كنت لأطيعه حياً، واعصيه ميتاً)
فهذا موقف لزوجة يستدل من خلاله على شرف معدنها ورفعة منزلها في وقت كانت بحاجة فيه إلى دريهمات لتعيش بها في حياتها بعد وفاة زوجها، ولكن خلق الوفاء منعها من ذلك.