صائمون ولكن,صائمون ولكن,صائمون ولكن,صائمون ولكن,صائمون ولكن,صائمون ولكن,vvصائمون ولكن,صائمون ولكن,صائمون ولكن,صائمون ولكن, ------- بسم الله الرحمن الرحيم ------- صائمون ولكن
إن الإخلاص في كل العبادات أساس لابد منه، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً أريد به وجهه، وعمل على سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[البينة:5] وقال: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2-3] وقال سبحانه: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً[الكهف:110] فالإخلاص واجب في كل العبادات، وإذا زال الإخلاص عنها تحولت العبادة إلى عمل لا يؤجر عليه صاحبه، بل يذم ويعاب ويعذب في الدار الآخرة، قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ[الماعون:4-7] وقال سبحانه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[هود:15-16].
الصوم عبادة السر
والصوم من بين هذه العبادات كلها: هو عبادة السر، فهو عمل بين العبد وبين الله عز وجل، لا يطلع عليه أحد من الخلق، أتم صيامه أم نقصه أم نقضه.
ولهذا قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: {كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزي به} وإنما قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي؛ لأنه لا يطلع على حقيقة العبد إن كان صام صياماً شرعياً حقيقياً أم أفطر بينه وبين نفسه، لا يطلع عليه إلا الله، حتى إن العبد لو نوى الفطر نية جازمة صادقة ثابتة فإنه يفطر بذلك، ولو لم يتناول شيئاً، كما ذهب إليه جمع كثير من الفقهاء، أنه إذا قطع نية الصيام ونوى الفطر أفطر ولو لم يأكل شيئاً، فدل ذلك على أن سر الصيام: هو في الإمساك عن المفطرات بنية، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
إذاً: فلابد من التعبد، وإرادة وجه الله تعالى في الصيام، وألا يكون الإنسان صام مجاراةً للمجتمع، أو سيراً على تقليد الناس، أو خوفاً من البشر، وإنما صام رجاءً فيما عند الله، وخوفاً من عقابه، وأنت تجد من الناس اليوم من لا يستشعر نية الصيام، ولا يصوم إلا مجاملة لمن حوله، فهو يخشى الناس ولا يخشى الله، يخشى الناس أن لو أفطر لانكسر جاهه عندهم، وسقطت منزلته، أو يخشى أن يتحدث الناس عنه: أن فلاناً أفطر ولم يصم، أو يخشى أن يعاقب من بعض الناس على فطره، فيصوم لهذا.
وربما لو أتيح له أن يفطر سراً لفعل، ومنهم من لا يخشى إلا هذا، ولا يراقب الله تعالى في عمله، وحينئذ فإن هؤلاء ممن لو اقتضاهم الأمر أن يفعلوا ضد ذلك لفعلوا، فأنت تجد هذا في صوم الفريضة.
الفرق في الإخلاص بين صوم الفرض والنفل
أما بالنسبة لصوم النفل: فإن الأمر يختلف، ففي صوم الفريضة أغلب الناس إنما يصومون ابتغاء وجه الله، ومراقبة لله تعالى، وخوفاً منه، ويقل المراءون في صوم الفريضة؛ لأن كل المسلمين صائمون.
فالإنسان لا يشعر أنه بصيامه فعل شيئاً عظيماً فاق فيه الناس كلهم أو خالفهم، أو أتى فيه من العبادة بما لم يأت به غيره، فغالب الناس يصومون الفرض لله تعالى، وقليل منهم من يصوم لغير الله.
أما بالنسبة لصوم النافلة: فإن الأمر يزيد عن ذلك، فمن الناس من يصوم النفل ويشيع عند الناس أنه كثير الصيام، فإذا كان بينهم في مناسبة أو أكل أو شرب فإنه يمسك عن الأكل والشرب ولو كان مفطراً؛ خشية أن يخيب ظن الناس فيه؛ لأنهم ظنوه صائماً، فلو قالوا له: تفضل يا فلان، أم أنك صائم؟ لاستحى؛ وقال: نعم، أنا صائم، أو ربما تكلف أن يتظاهر بالصوم، ويتظاهر -أيضاً- بأنه يريد أن يكتم الصيام، فإذا قالوا له: تفضل يا فلان! أم أنت صائم؟ قال لهم: لا أريد أن آكل، ورفض الأكل، ولم يبح بالصيام؛ لأنه يريد أن يظنوا أنه صائم، وهو في الواقع لم يكن صائماً!!
ومنهم من يخبر بأنه صام فيقول: منذ عشرين سنة وأنا أصوم، أو منذ كذا وأنا أصوم الإثنين والخميس، ومنهم من عادته أن يصوم الاثنين والخميس، فإذا دعي إلى غداء في الاثنين أو الخميس قال: اليوم خميس، وهو لو قال: أنا صائم بنية الرياء لربما كانت هذه بلية، فكيف إذا كان قال: اليوم خميس، وهو يريد أن يقول لهم: أنا أصوم كل أثنين، وأصوم كل خميس، ومنهم من ينظر إلى الناس بعين الازدراء والاحتقار؛ لأنه صائم وهم مفطرون.
إذاً على العبد أن يحرر نيته لله تعالى، فإنه كبير -أَيّ كبير- أن يجهد الإنسان ويتعب، ويحرم لذات ما أحل الله تعالى في هذه الدنيا من طعام وشراب ونكاح بصيام نفل أو غيره، ثم لا يكتب له من ذلك شيء، بل ربما كانت عليه آثاماً؛ بسبب أنه ما أراد بها وجه الله، وإنما عمل ما عمل رياءً وسمعة، قال الله تعالى:الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ[الملك:2] قال الفضيل بن عياض : أي أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، فلا يقبل حتى يكون خالصاً صواباً.
فحرر نيتك، وراقب قلبك، واعلم أن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً، ويقول سبحانه: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فأنا منه بريء وهو للذي أشرك} كما في الصحيح.
إن الناس ينظرون إلى الظاهر، أما القلوب فشأنها عند علام الغيوب، فكما تجهد في إصلاح ظاهرك وتحسينه وجعله على الكتاب والسنة، فعليك أن تجهد -أيضاً- في إصلاح باطنك، ألا يعلم الله من نيات قلبك ومقاصده أنك لا تريد غيره، ولا تقصد سواه.
ثانياً: من مكارم الأخلاق
تربية الصيام الإنسان على الإنفاق
إن من حكم الصيام: تربية العبد على الجود والإنفاق.
فمثلاً الجوع -وهو جزء من الصيام- يذكر الإنسان بحال الفقير والمسكين والجائع؛ ولهذا كان الشاعر يقول بعد أن جاع زماناً طويلاً ثم أغناه الله تعالى، فكان ينفق ويتصدق فقالت له زوجته: ارفق بالمال، قال:
لعمري لقد عضني الجوع عضة فآليت ألا أمنع الدهر جائعاً
فحين يجد الإنسان مس الجوع؛ فإن ذلك يدعوه إلى السخاء والكرم والإنفاق، ولهذا {كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فالرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة} رواه البخاري من حدين ابن عباس .
إن جوده محمد صلى الله عليه وسلم كان دائماً، فقد أعطى غنماً بين جبلين، وأعطى مائة من الإبل، حتى أنه سئل الثوب الذي يلبسه فأعطاه محمد صلى الله عليه وسلم ولبس غيره، وإنما كان جوده محمد صلى الله عليه وسلم في رمضان لأسباب:
أولها: أنه شهر الصيام، والصيام يدعو إلى الإنفاق والبذل والكرم والسخاء.
وثانيها: أنه شهر تضاعف فيه الحسنات.
وثالثها: أنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر فيه من قراءة القرآن، والقرآن يدعو إلى الإنفاق وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ[الحديد:7] مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[البقرة:245] وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ[النور:33] إلى غير ذلك. حتى أنه صلى الله عليه وسلم ما سئل شيئا قط فقال: لا.
كأنك في الكتاب وجدت أن (لا) محرمة عليك فلا تحل
فما تدرى إذا أعطيت مالاً أيكثر في سماحك أم يقل
إذا حضر الشتاء فأنت شمس وإن حضر المصيف فأنت ظل
إن المسلم الحق يستعلي على وعد الشيطان الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ[البقرة:268] فلا يمنعه ذلك أن ينفق من فضل الله تعالى، وأن يتصدق على العباد خشية الفقر، ومن منع ما في يده خشية فقر؛ فالذي فعل هو الفقر، فإن كل يوم له رزق جديد يأتي به الله تعالى، وإن منعت ما عندك منعك الله تعالى ما عنده.
ورزق اليوم يكفيني وإني بيومي جد مغتبط سعيد
فلا تخطر هموم غد ببالي فإن غداً له رزق جديد
1- الاندهاش من شيخ كبير السن:
إنني أندهش من ابن السبعين، وابن الستين، وابن الثمانين، الذي يملك الملايين، ويملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، ثم تشح يده بقليل المال ينفقه في سبيل الله، حتى على نفسه، أو على ولده، أو على زوجه، يدخر هذا المال لماذا؟! إنه أمر لا تفسير له قط إلا الانسياق لألاعيب الشيطان، وإلا فإن نفسك التي تبخل عليها لم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، ولم يبق من عمرك إلا كالشمس على رءوس الذوائب، فأنت لا تدري أيصبحك الموت أم يمسيك.
أما أولادك الذين تبخل عليهم وزوجك؛ فهم الذين سيرثون هذا المال من بعدك، وها أنت الآن تبخل عليهم وتمنعهم، وربما قصرت في النفقة الواجبة، وليس معقولاً أبداً أن تجمع المال لهم، وتقول أريد أن يكونوا من بعدي أغنياء ولا يكونوا عالة يتكففون الناس، وها أنت تمنعهم في حياتك بعض الواجب عليك لتلقى الله تعالى بآثام تلك الرعية، التي تقول لمن تتركنا؟
وللنفس تارات تحل بها العري ويسخو عن المال النفوس الشحائح
إذا المرء لم ينفعك حياً فنفعه أقل إذا ضمت عليك الصفائح
بأية حال يمنع المرء ماله غداً فغداً والموت غادٍ ورائح
يا أخي! ويا أختي! لقد دعاكما الداعي إلى الإنفاق، دعاكما إلى الإنفاق في أبواب الخير وهي كثيرة، دعاكما إلى الإنفاق للصومال الذين يموتون من الجوع والعطش ولا يجدوا ما يفطرون عليه في شهر رمضان وغيره في حلقة تحفيظ القرآن، أو إلى الإنفاق في حلقة تحفيظ سنة، أو دعاكما إلى الإنفاق على إطعام جائع، أو كسوة عار، أو إغاثة ملهوف، أو كفالة يتيم مات أبواه، أو إلى الإنفاق في مشروع دعوة توزيع كتاب، أو توزيع شريط، أو تجهيز غاز في سبيل الله، وأراك أخي! وأراكِ أختي! لا زلتما مترددين!!.
2- علل واهية في عدم الإنفاق:
أراك يوماً تتعلل بخوف الفقر، وأنت الذي تملك الملايين التي لو أنفقت بيديك طيلة عمرك ما نقص ذلك منك إلا القليل، وأراك يوماً آخر تحتج بأنه ليس لديك سيولة نقدية؛ وأقول لك: الحاجة أم الاختراع، وليس ضرورياً أن تكون الصدقة التي ندعوك إليها مالاً ودراهم وورقاً نقدية؛ بل قد تكون الصدقة أرضاً، أو مزرعةً، أو سيارةً، أو عمارةً توقفها في سبيل الله للمحتاجين وأبناء السبيل! وأراك يوماً تحتج بخوف ألا تصل الصدقة إلى مستحقيها، وقد وجدت طرقاً موثوقة! ولكنني مع ذلك أقول لك: لماذا تصم أذنيك عن حديث رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو في الصحيح: {تصدق على زانية، ثم على غني، ثم على سارق، وقد كتبت كلها في الصدقة المتقبلة؛ أما الغني: فلعله أن يعتبر فينفق، وأما السارق: فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية: فلعلها أن تستعف عن زناها}.
وأحياناً نناديك لإغاثة المسلمين الفقراء في إفريقيا فتقول: فقراء الداخل أحوج! وفي الإسلام لا يوجد داخل وخارج، فالمسلمون سواسية، تجمعهم كلمة التوحيد والإخلاص، وتجمعهم الصلاة، يتجهون بها لرب العالمين، ويستقبلون البيت العتيق، ويجمعهم الصوم الذي يمسكون فيه لرب العالمين، وتجمعهم بطاح مكة التي يضحون فيها لله تعالى، فلا يوجد داخل ولا خارج.
ما بيننا عرب ولا عجم مهلاً يد التقوى هي العليا
خلوا خيوط العنكبوت لمن هم مثل الذباب تطايروا عميا
وطني كبير لا حدود له كالشمس تملأ هذه الدنيا
تقول: فقراء الداخل أحوج! فإذا قلنا لك: تصدق على فقراء الداخل -كما تسميهم- قلت: أريد بناء مسجد؛ لأن أجره دائم، فإذا قيل لك: هذا مسجد فأنفق على بنائه، قلت: أريد شراء أرض لبناء مسجد، فإذا قيل لك هذه أرض يبنى عليها مسجد. قلت: هذه الأرض غالية، والمساجد حولها كثيرة.. لقد تحير فيك الأطباء!!.
إن المال -أيها الأخ الكريم- هو العنصر المفقود في معظم الأعمال الخيرية الإسلامية، فقد وجدنا المسلمين قادرين -بإذن الله تعالى- على أن يقوموا بالدعوة، ونشر الخير، والأمر بالمعروف، وإحياء الجهاد، ولا ينقصهم لذلك كله إلا المال، والمال قد جعلك الله تعالى خازناً وأميناً عليه، أفيسرك أن يكوى به جنبك وجبينك وظهرك يوم يقوم الناس لرب العالمين؟!!
إذاً: الخلق الأول الذي يعوده الصيام للصائمين: هو خلق الجود والكرم والإنفاق.
تربية الصيام الإنسان على الصبر
الخلق الثاني: الصبر.
والصوم نصف الصبر، ومعنى الصبر في الصوم ظاهر، فإن الإنسان يكلف نفسه عناء الإمساك عن الشهوات والملذات المستطابة التي يتوق إليها القلب، وتشرئب إليها النفس، ويحبها الإنسان بطبعه، فيمسك عنها طيلة نهار رمضان؛ لوجه الله رب العالمين، وهو من الصبر على طاعة الله، وهو أيضاً من الصبر عن معصية الله، ولهذا أمر الله تعالى بالصبر في كتابه فقال:وَاصْبِرْ نَفْسَكَ[الكهف:28] وقال: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[البقرة:153] وقال: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[البلد:17] وقال: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ[الزمر:10] ومدح الله تعالى أيوب عليه السلام فقال: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً[ص:44] والله تعالى يحب الصابرين كما أخبر، وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال: وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر}.
والغريب أن الناس يتكلمون عن الصبر ويفيضون في الحديث عنه، بل ويسمعون كلاماً كثيراً، ويقرءون ما جاء فيه في الكتاب والسنة، ولكن إذا نزلت بهم الملمات والمهمات، واحتاجوا إلى الصبر حتى يطبقوه في سلوكهم وخلقهم وأقوالهم وأعمالهم؛ بدوا كما لو كانوا لم يسمعوا يوماً من الأيام آمراً بالصبر، ولا ناهياً عن ضده، ولا محرضاً عليه، ولا مبيناً لفضل أهله، فإذا احتاجوا إلى الصبر في مواقعه نسوا هذا كله كأنهم لم يسمعوه؛ وهذا يدل على أن الإنسان يحتاج في تعليمه وتدريبه على الأخلاق الفاضلة، ويحتاج إلى التربية الواقعية؛ ومواجهة الأمر حقيقة، وقد يظن الإنسان نفسه صابراً وهو جزوع، وقد يظن نفسه حليماً وهو غضوب، قال عمر -رضي الله عنه: [[وجدنا خير عيشنا بالصبر]].
إن الحياة بالصبر تبدو وتغدو جميلة بكل ما فيها من المحن والمصائب والمشاكل، بل إن الصبر هو الإكسير الذي تتحول به الآلام -بإذن الله تعالى- إلى نعم، وتتحول به المحن إلى منح، وكم من إنسان نزلت به ملمة جليلة عظيمة فلما واجهها بالصبر وجد برد اليقين في قلبه، ولذة السكينة في فؤاده، ورضي بالله تعالى؛ فرضي الله تعالى عنه وأرضاه.
خليلي لا والله ما من ملمة تدوم على حي وإن هي جلت
فإن نزلت يوماً فلا تخضعن لها ولا تكثر الشكوى إذا النعل زلت
فكم من كريم قد بلي بنوائب فصابرها حتى مضت واضمحلت
وكم غمرة هاجت بأمواج غمرة تلقيتها بالصبر حتى تجلت
وكانت على الأيام نفسي عزيزة فلما رأت صبري على الذل ذلت
فقلت لها يا نفس موتي كريمة فقد كانت الدنيا لنا ثم ولت
إن المرء قد يسمع عن السجن والسجناء فيخيل إليه أن الأمر عادي، وأنه لو حبس لصبر، ووجد في ذلك فرجاً من مجاملة الناس ومجالستهم ومحادثتهم، والصبر على أذاهم، لكنه لو حبس ساعة فربما فقد الصبر وتململ، وهذا يوسف عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى: فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ[يوسف:42] ولما أتاه الداعي ما تلقاه عند الباب ولا أسرع إليه، وإنما قال له: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ[يوسف:50].
لقد سمعت أمس عن خروج داعية من دعاة الإسلام من سجون بلاد الشام ، وقد مكث فيها ما يزيد على عشر سنوات؛ الله أكبر! عشر سنوات ولد فيها مواليد، وشبوا وكبروا ودخلوا المدرسة، ومات فيها أموات، حيا فيها أناس، ومات فيها آخرون، وقامت فيها دول، وزالت فيها دول أخرى، وتغيرت فيها أشياء كثيرة، وهؤلاء قد حيل بينهم وبين الدنيا.
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجان يوماً لحاجة عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
ونفرح بالرؤيا فجل حديثنا إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا
يحكى أن أبا أيوب الكاتب حبس خمس عشرة سنة حتى كاد ييأس، فكتب إليه صديق يعزيه ويقول له:
صبراً أبا أيوب صبر ممدح فإذا عجزت عن الخطوب فمن لها
صبراً فإن الصبر يعقب راحة ولعلها أن تنجلي ولعلها
صبرتني ووعظتي وأنالها وستنجلي بل لا أقول لعلها
ويحلها من كان صاحب عقدها كرماً به إذ كان يملك حلها
فكتب إليه أبو أيوب يقول له:
فلم يمكث إلا أياماً حتى جاء الكتاب بإخراجه من السجن، فخرج معززاً مكرماً.
مشاكل ليس لها إلا الصبر:
إنك لا تحصي النساء اللاتي يشكين أزواجهن لسوء المعاملة، أو قسوة الخلق، أو غلظ الطبع، أو كثرة التهديد والوعيد، أو عدم الاستقامة في الدين، أو منعها عن أهلها، أو التقتير عليها في النفقة، أو تعييرها، أو عدم العدل معها إن كان لها ضرة، أو ارتكاب المعصية في بيتها، أو ما أشبه ذلك من ألوان المآسي التي توجد في البيوت، وربما ترامى إلى مسمعك صوت ضعيف، صوت أنثى تشتكي ما تعاني، وهي لا تجد لها مخرجاً، وقد ارتبطت مع هذا الرجل بعقد، وأنجبت منه أولاداً وأصبحت أسيرة قعيدة في بيته، لا تملك حلاً ولا عقداً، فأي دواء لهذه الأنثى إلا الصبر.
وأنت -أيضاً- لا تحصي من يتبرمون من أحوالهم، فهذا موظف يتبرم من عمله، وهذا تاجر يتبرم من تجارته، وهذا رجل تحت مسئول ظلوم أو حاكم غشوم، أو تحت ضغط اجتماعي لا يراعيه، أو يعاني مشكلة تلاحقه وتؤرقه، أليس في الدنيا مشكلات قد لا يملك الناس لها حلاً؟ ولكن حلها عند من عقدها وهو رب العالمين.
إن هناك أموراً إنما يكون حلها بالموت، بالدار الآخرة؛ ولهذا كان ذكر الموت أحياناً سبباً في التفريج عن الإنسان، فإن الموت ما ذكر عند ضيق إلا وسعه، ولا ذكر عند سعة إلا ضيقها، فهو من أسباب التنفيس، فهب أن هذه المشكلة ظلت معك حتى الموت، أليس في الموت فرج؟
قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا في الموت ألف فضيلة لا تعرف
منها أمان لقائه بلقائه وفراق كل معاشر لا ينصف
هذا مع أن فرج الله تعالى للصابرين قريب، قال الله تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ[البقرة:155-157] وقال سبحانه: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[البقرة:214]
اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج
وقال تعالى:فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً[الشرح:5-6] وفي الحديث الصحيح يقول محمد صلى الله عليه وسلم : {واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً}.
وإذا كنا اليوم وكل يوم نأسى لمصاب امرأة في عقر بيتها وعقر دارها، أو لموظف صغير تحت مسئول قاس، أو لرجل يعاني من مشكلة اجتماعية، فإن الأولى بمزيد الأسى هي تلك الشعوب المسلمة، والأمم الموحدة التي تسام الهوان في دينها، ولا تملك الانتصاف من ظالمها، ولكن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته قال الله عز وجل:وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ[هود:102].
تربية الصوم الإنسان على الحلم
الخلق الثالث: الحلم.
وهو: مقابلة الإساءة بالإحسان، والعفو عن الجاهل، والإعراض عنه، وقد مدح النبي محمد صلى الله عليه وسلم هذا بقوله كما في الصحيح: {ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: {أن رجلاً قال: يا رسول الله أوصني ولا تكثر عليَّ أو قال: -كما في رواية أخرى-: يا رسول الله! مرني بأمر وأقلله علي؛ لكي لا أنساه. فقال له النبي محمد صلى الله عليه وسلم : لا تغضب} والصوم سبب لتربية الإنسان على الحلم، والصفح عن الجاهل، والعفو عن المسيء؛ لأنه عبادة يتلبس بها الإنسان، والعابد قريب من الله تعالى بعيد عن نزغات الشيطان، بعيد عن إغراءات النفس الأمارة بالسوء، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه البخاري في كتاب الصوم باب "من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم" ورواه أبو داود والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال: {من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه} والله تعالى غني عن العالمين، فليس لله حاجة أن يدع هذا طعامه وشرابه، كما أنه ليس لله تعالى حاجة أن يدع غيره أيضاً ممن ترك قول الزور والعمل به؛ فالله تعالى غني عن هؤلاء وغني عن أولئك، وليس بحاجة إلى هؤلاء ولا إلى غيرهم، وكل البشر ليس تعالى في حاجة إلى أحد منهم.
ولكن المعنى -والله تعالى أعلم- أن الصوم إنما هو للعبد، لتربية العبد وتهذيبه، وحمله على كريم الطباع، وجميل الأخلاق، والنأي والبعد به عن قول الزور، وعن العمل بالزور، وعن شهادة الزور، وعن الظلم، وعن الفحش، وعن السب، وعن الشتم، وعن الجهل، فإذا لم يترك ذلك فإن الصوم يكون حينئذ لم يفعل فعله فيه.
ولماذا يصوم مثل هذا؟ علام يصوم إذا لم يصم لنفسه؟ إن لله تعالى غني عنه، ولهذا قال تعالى إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ[الزمر:7] فهو سبحانه غني عن هؤلاء الذين كفروا وأعرضوا عنه، وهم لا يضرونه شيئاً، كما أنه سبحانه غني أيضاً عن المؤمنين، ولهذا قال سبحانه: وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [العنكبوت:6] وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[يونس:23].
فكفر العبد هو على نفسه، وفسقه على نفسه، وارتكابه للزور هو على نفسه قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ[البقرة:286] ولهذا أيضاً قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن الله تعالى قال: {يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئاً}.
فالله تعالى لا تضره المعصية، ولا تنفعه الطاعة، إنه سبحانه غني عن العالمين، وإنما الصائم يعمل لنفسه فيمسك عن الطعام والشراب من أجل أن يربيه ذلك على أن يدع قول الزور وأن يترك العمل به، فإذا لم يدع قول الزور ولم يدع العمل به فلماذا صام إذاً؟ هل صام لله تعالى ومن أجل الله؟ الله تعالى ليس له حاجة إلى أن يترك هذا الإنسان طعامه وشرابه.
مقابلة الإساءة بالإحسان:
وقد أرشد النبي محمد صلى الله عليه وسلم الصائم إلى هذا الخلق الكريم فقال في الحديث المتفق عليه:{إذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤٌ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم} يقابل الإساءة بالإحسان، فإذا عصى الله تعالى فيك فعليك أن تطيع الله تعالى فيه.
إنه لا يليق بالمسلم عامة ولا بالصائم خاصة أن يوزع ألفاظ السباب والشتائم على من حوله، فإن قصرت الزوجة في طهي الطعام أو كنس البيت أو كي الثياب أو العناية بالأطفال أو صناعة الشاي سبها، وسب أباها وأمها، وعيرها وهددها، وملأ البيت صراخاً وضجيجاً! إنه ليس من المروءة والكمال أن يكون الرجل في بيته امبراطوراً، إذا تكلم سكت الجميع، وإذا ظهر تجمد الكل، فلا ينطقون ولا يتكلمون، بل قد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم حكيماً حليماً صبوراً رقيقاً حتى مع أهله، وربما رفعت عليه زوجه صوتها، وربما هجرته إحداهن إلى الليل.
فليس مناسباً إن قصر زوجك أن تغلظ له في القول، أو أفسد بعض الأطفال أثاث المنزل، أو مزقوا أوراقاً، أو نثروا طعاماً فربما شتمهم، وربما شتم نفسه معهم أيضاً، وفي صحيح مسلم : {سمع النبي محمد صلى الله عليه وسلم رجلاً يلعن بعيره أو ناقته، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تصحبنا ناقة ملعونة} فتركها صاحبها، فكانت تمشى بمفردها بعيداً عن الناس؛ استجابة لأمر النبي عليه الصلاة والسلام.
وإن أطال مراجع على هذا الموظف في النقاش، أو تحدث معه، أو ألح عليه أغلظ له في القول، وربما افتعل هذا الإنسان مشكلة مع إمام المسجد أو مع الجار أو مع صديق أو مع زميل في العمل، وعذره في كل ذلك أنه صائم، ونفسه -كما يعبرون- واصلة.
والواقع أن الصوم يجب أن يكون جنة تمنع العبد مما يسخط الله، وحاجزاً يحول بينه وبين الغلط في القول أو في الفعل، لا،بل أقول لك: حتى أولئك الذين يبدأونك بالسب والشتم، أو يعيرونك، أو يسبونك، أو يغلظون لك في القول، أو لا يراعون شعورك، أو لا يحترمون مقامك، عليك أن تقابل ذلك كله بالإعراض، عليك أن تقابل ذلك كله بالصفح كما قال الله عز وجل: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199].
ليس القول كالعمل:
ما أسهل هذه الكلمات! أن نقولها، وما أصعب أن تمسك نفسك عن الغيظ فلا تنفذه، وأن تحجزها عن الغضب فلا تستجيب له، وأن تردها عن الانتصار للنفس فلا تقبله، قال الله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا [فصلت:34-35] والصوم من الصبر، فتعلم الحلم في الصيام، وقال الله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً[البقرة:83].
فإن القول البذيء السيئ الجارح من أعظم أسباب فساد القلوب، وتغير النفوس، واختلاف الصفوف، وفي الحديث الذي رواه الترمذي وأبو داود وأحمد وابن ماجة وغيرهم -وهو حديث صحيح- عن أنس بن معاذ الجهني رضي الله عنه، أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال:{من كظم غيظاً وهو قادر على إنفاذه؛ دعاه الله تعالى يوم القيامة حتى يخيره من ( 2012 )( 2012 )( 2012 )( 2012 )( 2012 ) العين ما شاء}.
قال الأحنف بن قيس : ما عاداني أحد قط إلا أخذت فيه بإحدى ثلاث خصال: إن كان أعلى مني عرفت له قدره، وإن كان أقل مني حفظت قدري عنه، وإن كان مثلي تفضلت عليه. وقد نظم بعض الشعراء هذا المعنى الكبير الذي ذكره سيد من سادات الحلماء وهو الأحنف بن قيس فقال:
سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب وإن كثرت منه علي الجرائم
فما الناس إلا واحد من ثلاثة شريف ومشروف ومثل مقاوم
فأما الذي فوقى فأعرف قدره وأتبع فيه الحق والحق لازم
وأما الذي دوني فأحلم دائماً أصون به عرضي وإلا فلائم
وأما الذي مثلى فإن زل أو هفا تفضلت إن الفضل بالفخر حاكم
تربية الصيام الإنسان على الشجاعة
الخلق الرابع: الشجاعة.
ولقد كان أشجع الناس هم أهل العفة؛ العفة في طعامهم وشرابهم، والعفة في نكاحهم، فإن الشهوة تضعف القلب، والمنهمكون في الدنيا من غير تمييز بين حلالها وحرامها وحقها وباطلها دائماً هم جبناء! جبناء في المعارك! وجبناء في قول كلمة الحق! وجبناء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن قلوبهم ضعيفة، ونفوسهم رديئة، والشهوات قد نبتت عليها أجسامهم، ومصالحهم أصبحت مرتبطة بهذه الدنيا الدنية؛ فهم يحامون عن مصالحهم والراكضون وراء الوظائف والمناصب من غير تقوى هم -أيضاً- من الجبناء.
إن الصوم يكشف للإنسان عن جانب من حقيقة الحياة الدنيا، وأنها زخرف ولغو ولهو وباطل وزينة، وتكاثر في الأموال والأولاد، وأنه لا يركن إليها إلا المغفلون.
إن الصوم ينتزع الإنسان من الإغراق في الملذات ليفطمه عن هذه الدنيا، ويهزه هزاً عنيفاً ليقول له: نعم هذه هي الدنيا، وأنت فيها كالحالم الذي يجب أن يصحو، نعم، هذه هي الدنيا، ولكن هناك الدار الآخرة، أنت الآن تصوم عن الدنيا لا لأنك سوف تكسب من وراء الصوم مالاً، ولا جاهاً، ولا رتبة، ولا وظيفة، ولا سلامة دنيوية، ولا صحة في بدنك، فكل ذلك قد يأتي، ولكنك لا تصوم من أجله، وإنما تصوم؛ لأنك توقن أن هناك آخرة تعمل لها، وأن ثمة موتاً وبعثاً ونشوراً وجزاءً
إني رأيت عواقب الدنيا فتركت ما أهوى لما أخشى
فكرت في الدنيا وعالمها فإذا جميع أمورها تفنى
وبلوت أكثر أهلها فإذا كل امرئ في شأنه يسعى
أسنى منازلها وأرفعها في العز أقربها من المهوى
ولقد مررت على القبور فما ميزت بين العبد والمولى
أتراك تدرك! كم رأيت من الأحياء ثم رأيتهم موتى
إن أدنى مراحل الشجاعة إذا لم تقل الحق؛ ألا تقول الباطل، وألا يتلفظ لسانك بما يسخط الله تعالى، وإذا لم تكن مع أهل الإيمان فلا أقل من ألا تكون ضدهم، وإذا لم يكن لسانك في صالحهم، فلا أقل من أن يسلموا منك، وإذا رأيت في نفسك هلعاً وجبناً ورخاوة فتأمل ما السبب؟! ربما تكون آكلاً للربا! أو الحرام فنبت جسدك على سحت! وربما تكون مرتكباً لما لا يحل لك من الفواحش والذنوب؛ فهذه عاقبتها في الدنيا!!
ثالثاً: العمر يفوت
نعم، وأنت تطويه كطي الثوب.
يسر المرء ما ذهب الليالي وكان ذهابهن له ذهابا
وهذا الشهر الكريم هو مضاعفة للعمر، ففيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فما بالك بالشهر كله! إنه حري بالمسلم الصائم أن يستدرك أيام هذا العمر ولياليه فيما ينفع.
الأمر الأول: قراءة القرآن
أول ذلك: القرآن الكريم، وله بكل حرف عشر حسنات، لقد أنزل هذا القرآن في هذا الشهر قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ[البقرة:185] وكان جبريل عليه السلام يعارض النبي محمد صلى الله عليه وسلم في كل سنة في شهر رمضان مرة، وعارضه في السنة التي توفي فيها بالقرآن مرتين إيذاناً بدنو أجله محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا كان أصل مشروعية ختم القرآن في شهر رمضان.
فجدير بك أيها المسلم! وبك أيتها المسلمة! أن تخصص لنفسك ورداً من القرآن الكريم طيلة العام ولو قل، ثم في هذا الشهر -خاصة- أجدر وآكد، وعليك أن تسرح طرفك في القرآن، وأن تعمل فكرك فيه، فلا يكون همك آخر السورة، أو آخر الوجه، أو آخر الجزء، أو آخر القرآن أن تختمه؛ بل أن تقرأ وتتأمل قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ[ص:29].
فهذا خير تؤمر به، وهذا شر تنهى عنه، وهذا خبر ماضٍ من أخبار السابقين تعتبر به، وهذا خبر مقبل تتهيأ له وتستعد قال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ[يوسف:3].
وهذا حق على الجميع، على جميع الناس، أئمة ومأمومين، فليس جديراً بالإمام أن يهذ القرآن كهذ الشِعر؛ لأنه يقول: أريد أن أختم قبل نهاية الشهر، أو أريد أن أختم، ثم اذهب إلى العمرة في آخر الشهر، بل عليه أن يترسل في قراءة القرآن، ولا بأس أن يردد بعض الآيات، ويرقق بها القلوب، ويتغنى بالقرآن.
ففي صحيح البخاري مرفوعاً: {من لم يتغن بالقرآن فليس منا} عليه أن يحرك به القلوب، ويدمع به العيون، ويستدر به العواطف والمشاعر، ويطرق به النفوس، كما أن على القارئ مثل ذلك، وعلى المرأة مثل ذلك، بل حتى الصغار يجب أن يربوا على هذا.
الأمر الثاني : الصلاة
قال الله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ[البقرة:45] وقال سبحانه:وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي[طه:14] وقال:وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132] وقال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ[البقرة:43].
ففي مواضع كثيرة من كتابه الكريم أمر الله عزوجل بالصلاة فرضها ونفلها، وهي الفيصل بين المسلمين والكفار؛ ولهذا قال:وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[الروم:31].
وقال النبي محمد صلى الله عليه وسلم : {بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة}.
وفي الحديث الآخر: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} وهذا المعنى يعرفه حتى الكفار.
يقول أحد المؤرخين البريطانيين-وهو توماس أرنولد - في كتاب له اسمه "العقيدة الإسلامية " يقول: هذا الفرض المنظم -أي: الصلاة- من عبادة الله تعالى هو من أعظم الأمارات المميزة للمسلمين عن غيرهم في حياتهم الدينية، فكثيراً ما لاحظ السائحون وغيرهم في بلاد المشرق ما لكيفية أداء الصلاة من التأثير في النفوس.
ويقول أحد القسس النصارى -وهو الأسقف لوفرو - يقول: لا يستطيع أحد خالط المسلمين لأول مرة إلا أن يندهش، ويتأثر بمظهر المسلمين في عقيدتهم حينما يكبرون ويصلون، فإنك حيثما كنت في بلاد المسلمين، في شارع مطروق، أو في حقل، أو في محطة سكة حديد، أو في غير ذلك أكثر ما تألف عينك مشاهدةً أن ترى رجلاً ليس عليه أي مسحة من الرياء، ولا أقل شائبة من حب الظهور، يترك عمله الذي كان بيده كائناً ما كان ذلك العمل، ثم ينطلق في سكينة وتواضع لأداء الصلاة في وقتها المعين.
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقى الأرض جاماً أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز وكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا
محمود مثل إياس قام كلاهما لك في الوجود مصليا مستغفرا
العبد والمولى على قدم التقى سجدا لوجهك خاشعين على الثرى
الفريضة في رمضان وفي غير رمضان يصليها المسلم، ولكن بعض المسلمين لا يعرف المساجد إلا في رمضان، أما في غيرها فإنهم يصلونها في بيوتهم، أو يؤخرونها عن وقتها؛ بل ومنهم من لا يصليها في غير رمضان، فإذا جاء رمضان ازدحمت المساجد بالمصلين، خاصة أول الشهر، وخاصة صلاة المغرب وصلاة الفجر.
وبعض الناس قد يكون مصلياً في رمضان فإذا جاء الشهر نام عن صلاة الفريضة؛ لأنه مشغول بالدوام، وفي الليل يسهر، فإذا جاء من الدوام نام ربما عن صلاة العصر فلم يصلها إلا بعد غروب الشمس.
وآخرون قد يقصرون في النوافل من القيام، والتراويح، وغير ذلك، منشغلون بالجلوس مع بعضهم في أحاديث لا تنفع ولا تضر، بل ربما كانت ضارة، أو في مشاهدة التلفاز -مثلاً- أو في لعب الكرة، أو في التسوق والانتقال من محل إلى محل، ومن معرض إلى معرض، ويذرعون الشوارع جيئة وذهاباً. أين المصلون؟ أين الذين كانت الصلاة قرة أعينهم، وسرور قلوبهم، ونداوة أرواحهم، وبهجة نفوسهم؟!!
الأمر الثالث : الإحسان
ينبغي الإحسان إلى الفقير والمسكين وابن السبيل، فإن هذا شهر المواساة، {ومن فطر صائماً فله مثل أجره} كما وعد الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128] وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[البقرة:195].
الأمر الرابع : العمرة
العمرة في رمضان كما قال محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري {تعدل حجة معي} ولا يلزم من العمرة طول البقاء، فإن من ذهب إلى البيت العتيق، وأحرم بالعمرة، وطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة ، ثم حلق أو قصر فقد أدى عمرة، وهي بالنية الصالحة في رمضان تعدل حجة مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فكأنما وقفت معه بعرفة ، وبت معه بمزدلفة ، ورميت معه الجمار، وطفت معه بالبيت، وسعيت معه بين الصفا والمروة ، وبت معه بمنى ، ووادعت معه عليه الصلاة والسلام، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم ، ولو لم تستغرق منك هذه العمرة إلا بضع ساعات.
إن البعض ممن يطيلون البقاء في رمضان في مكة المكرمة ، وربما قضوا الشهر كله هناك، يحصلون أيضاً على خير كثير، فإن الصلاة فيه بمائة ألف صلاة فيما سواه إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فهي في مسجده عليه السلام بألف صلاة، وهي في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة؛ المهم أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة فيما سواه، وهذا فضل عظيم، وأجر كبير من الله عز وجل ولكن أيضاً ينبغي للإنسان ألا يهمل أهله، فلا ينبغي أن يذهب إلى هناك ويترك أهله لا يجدون من يطعمهم، أو يتفقد شئونهم، أو يقضي حاجاتهم، أو يراقبهم، بل أن يذهب بهم إلى هناك ويدعهم، وربما جلس في المسجد يصلي، ويجلس حتى تطلع الشمس، وينام في المسجد ولا يخرج للبيت إلا للوضوء أو لقضاء بعض حوائجه، أما أهله أين هم؟ أين يذهبون؟ ماذا يصنعون؟ ماذا يفعل أولاده؟ ماذا تفعل بناته؟ فإن ذلك كله ليس منه في قبيل ولا دبير.
بل من الناس من يذهب بأطفاله، ويذهب معه بخادمه، وتكون أحياناً كافرة، وقد كتب إلي بعض الإخوة أن أسرة من هذه المنطقة -بالذات- ذهبت معها بخادمه كافرة، فلما أقيمت الصلاة؛ قالت المرأة العجوز للخادمة: اخرجي، اخرجي؛ فقامت الخادمة سريعاً وخرجت من الحرم، فقال ناسٌ لهذه المرأة العجوز: لماذا أمرت الخادمة بالخروج؟ فقالت: لأنها نصرانية ، ولا أريد أن تجلس في المسجد وقت الصلاة! سبحان الله إلى هذا الحد! الله تعالى يقول:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا[التوبة:28] والمرأة هذه لم يجعلوا الأمر بالنسبة لها قرباناً للمسجد فقط، بل دخلت إلى المسجد بذاته، ومتى؟ في الشهر المبارك ثم تخرج وقت الصلاة، لم تعلم الدين ولا الإسلام، ولا ربيت على العقيدة، ولا دعيت إلى دين الله عز وجل وهذه من المصائب الكبار.
رابعاً: الصائمون عن الحرام
نعم، أنت عاقد العزم ولا شك على أن تصوم -بإذن الله تعالى- كما أمرك الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن حري بك أيضاً أن تصوم عن الحرام.
أولاً: الربا
نعم، أنت عاقد العزم ولا شك على أن تصوم -بإذن الله تعالى- كما أمرك الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن حري بك أيضاً أن تصوم عن الحرام.
حري بك أن تصوم عن الربا، وذلك الرصيد الضخم الذي نعرفه لك في البنوك الربوية التي قامت على محاربة الله تعالى ورسوله، وأعلنت ذلك، واحتلت أفضل المواقع وأرفعها وأعظمها، فهي قلاع حصينة، وكأنها معدة لمحاربة الله تعالى ورسوله، رصيدك في تلك البنوك لابد أن نأخذ منك وعداً قاطعاً بأن تخرجه، ولا تسمح لهؤلاء المرابين أن يستفيدوا من مالك، ويستعينوا به على معصية الله، والله تعالى يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ[المائدة:2].
فتعاملك بالربا، أخذك الفوائد البنكية التي يسمونها فوائد وهي في الواقع لون من الربا المحرم، وتعاملك بالمعاملات المحرمة.
ومضاعفتك للدين وقلبك للدين على المدين، واستخدامك لمسألة العينة، وغيرها من المسائل التي جاء الأمر أو النص بتحريمها، أو نطق العلماء بذلك؛ ماذا يعني؟ لماذا تصوم عما أحل الله لك من الطعام والشراب، ولا تصوم عما حرم الله عليك من المال الحرام؟
ثانياً: الغيبة والنميمة
إن اللسان نعمة من نعم الله تعالى، قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ[البلد:9].
وكان الجدير بالإنسان أن يستخدم لسانه في ذكر الله، أو دعائه، أو استغفاره، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والكلام الطيب، والنصيحة، وما أشبه ذلك، ولا حرج عليك أن تتكلم في المباح، فإن هذا من شأن الإنسان وطبيعته، فعلت وأكلت وشربت وذهبت وأتيت، وما أشبه ذلك من ألوان المباحات.
لكن أن يتحول الأمر إلى أن تستخدم نعمة الله تعالى في معصيته، في الغيبة، والوقوع في أعراض الناس، والتدخل في شئونهم، فلان فيه! وفلانة قالت! وفلانة فعلت! وما أشبه ذلك! وقول الزور، ونقل الكلام، والنميمة، والتحدث بين الناس ونقله على جهة الإفساد، وإشاعة الباطل والإثم والزور، وما أشبه ذلك.
فإن هذا من أعظم الذنوب والمعاصي خاصة وأنت صائم، فعليك أن تمسك عن ذلك كله.
وفي الحديث الصحيح أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال عن الغيبة:{ذكرك أخاك بما يكره قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته}.
وقد قال الله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً[الحجرات:12] وقال: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ[القلم:10-13]
وقال الشاعر:
فاحفظ لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تخاف لقاءه الشجعان
وقد ورد في هذا الباب حديث عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم { جيء بامرأتين غلبهما الصيام إليه، فقال لهما: قيئا، فقاءتا قيحاً ودماً عبيطاً، فقال النبي محمد صلى الله عليه وسلم : إن هاتين المرأتين صامتا عما أحل الله، وأفطرتا على ما حرم الله} أي: الغيبة والنميمة، وهذا الحديث رواه أحمد والطيالسي وغيرهما، وهو حديث ضعيف لا يحتج به، وإن احتج به الإمام أبو محمد بن حزم وغيره رحمه الله تعالى.
ثالثاً: النظر الحرام
ومن الأشياء التي يجب على العبد أيضاً أن يصوم عنها من الحرام: الصوم عن النظر إلى الحرام، سواءً أكان هذا النظر إلى امرأة، أم إلى التلفاز، أم إلى تمثيليات، أم أفلام محرمة، أم ما أشبه ذلك، مما يعلم هو في قلبه أن الله تعالى لا يحبه ولا يرضاه.
فإن هذا كله من مقدمات الزنا، وأسباب الفاحشة التي تفضي بالعبد إلى ما حرم الله عز وجل، وقد قال الله تعالى:وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً[الإسراء:32] وهذه الآية هي نهي عن الزنا، ولكنها أيضاً نهي عن النظر الحرام، ونهي عن القول الفاحش، ونهي عن الخلوة بالأجنبية، ونهي عن كل قول أو فعل يكون سبباً في القرب والدنو من الزنا، ولهذا قال: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا).
خامساً: المرأة الصائمة
أولاًً: المرأة شقيقة الرجل
المرأة جزء من المجتمع، وهي شقيقة الرجل كما قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم :{إنما النساء شقائق الرجال} والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ [الحجرات:13] ويقول سبحانه:أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى[آل عمران:195] فالمرأة شقيقة الرجل، وهي مثله بأصل التكليف، ونظيرته في أصل الخلقة، وهي تنعم إن أطاعت، وتعذب إن عصت، ولذلك ينبغي أن يدرك المسلم أن من واجبه أن يحترم المرأة، سواءً كانت أماً له، أم أختاً، أم بنتاً، أم زوجةً، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم يقول: {ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم}.
وكثيراً ما يتكلم الناس والرجال خاصة عن النيل من النساء والوقيعة فيهن، وكأنهم يبرئون أنفسهم ويتهمون المرأة، حتى إن بعض الشعراء يقول:
إن النساء شياطين خلقن لنا نعوذ بالله من شر الشياطين
وهذا خطأ عظيم فإن في النساء مريم التي اصطفاها الله تعالى، وفي النساء عائشة ، وفي النساء خديجة ، وفي النساء آسيا امرأة فرعون التي ذكرها الله تعالى في كتابه، وفي النساء أمهات المؤمنين، وفي النساء الصحابيات الجليلات، وفي النساء من المؤمنات الفاضلات التقيات من هي أهل للخير، ولا يجوز لمؤمن أبداً أن يطلق مثل هذه الألفاظ.