لا يختلف اثنان على أن الدولة الحديثة تقوم على فكرة الرأي والرأي الآخر، وبما أن الأسرة هي اللبنة الأولى لأي مجتمع، فإن التنشئة السليمة داخل الأسرة والتي يجب أن تقوم على المشاركة في اتخاذ القرار، هي السبيل الأمثل لتحقيق فكرة الشورى والديمقراطية داخل مؤسسات الدولة، فالابن إذا لم يجد في أسرته الحب والحنان سيتحول إلى ولد عاق سيئ الخلق، مثله في ذلك مثل المواطن الذي يفقد الانتماء والولاء نتيجة القهر الذي يعايشه فيتحول إلى شخص ضار بمجتمعه ودولته.
وإذا نظرنا للأسرة سنكتشف كما أنها تشكل النواة الأولية لأي مجتمع فهي تشكل دولة مصغرة مع فارق التعقيدات والتشابكات الموجودة بها، فهي مجموعة من الأفراد يعيشون في منزل له حدود معلومة ويديره الأب والأم اللذان يمثلان السلطة، فهل هناك ما يجمع بين الأسرة والدولة من حيث الشكل أو المضمون؟ وما هي أوجه التشابه بينهما وأيهما الذي يؤثر في الآخر؟ وهل يجب أن تتضافر أدوار الأسرة مثل أدوار مؤسسات الدولة حتى يكتب لها النجاح؟
تكامل لا تنافس
أجمع الكثير من أهل الاختصاص على صعوبة عقد مقارنة حقيقية متكاملة الأركان بين الأسرة والدولة، إلا أنه يمكن رسم صورة مجازية توضح كيف يمكن من خلال تحقيق المشاركة الإيجابية والفاعلة بين المؤسسات أو الأفراد أن نصل إلى نموذج ناجح للأسرة. من جانبه يرى د.عمار علي حسن الكاتب والباحث في علم الاجتماع السياسي أنه برغم اختلاف شكل الدولة عن الأسرة من حيث الأطر التي تحكم المؤسسات والدساتير والقوانين المنظمة للمجتمع، فإنه يمكننا رسم ملامح أساسية يجب أن تكون في ذهن كل من الرجل والمرأة المقبلين على الزواج، وذلك من خلال التصور المطروح بأن الأسرة كيان مصغر جدا للدولة مع الإقرار بالاختلافات الشاسعة بينهما في نواح شتى، فالأسرة يجب أن تسود فيها أربعة مفاهيم؛ أولها: أن القيمة الأساسية التي تحكم العلاقة بين أفرادها هي قيمة تكامل الأدوار وليس الصراع، والثاني: أنه على كل فرد القيام باختصاصات محددة بمشاركة الآخر.. فالإنفاق على سبيل المثال هو الدور الرئيسي للرجل و لكن هذا لا يمنع من مشاركة الآخر فيه كطرف مانح للمعونة، والعكس في قطاع الخدمات فالمرأة هي الأجدر بهذا القطاع ولكن لا مانع من مشاركة الرجل في تأدية هذا الدور معها، وقطاع مثل التربية والتعليم يسير فيه الرجل مع المرأة جنبا بجنب وخطوة بخطوة و كل أسرة أجدر برسم ملامح هذا القطاع تحديدا. وعن المفهوم الثالث يتابع د. عمار قائلا: على كل أسرة أن يكون لديها تصور عن دورها الأوسع في المجتمع من حيث العلاقات بالآخر سواء جيران أو أقارب أو أصدقاء، أو من حيث تصورها بما يمكن أن تساهم به في رفعة مجتمعها الذي تحيا به، وهذا ما يضاهي دور الدولة في رؤيتها للتعامل مع المجتمعات التي تتعامل معها سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، وأن يكون لديها أيضا تصور آخر عن مفهوم أمنها القومي والذي يتمثل في القضايا التي تمس شرفها وهيبتها وكرامتها، بالإضافة إلى تحقيق أساسيات الكفاية من مسكن وكساء وغذاء ودواء وترفيه.
المواطن الابن
وتربط د. نادية عمر –أستاذ علم الاجتماع بجامعة الإسكندرية- بين دور الأسرة والدولة، فترى أن الأسرة تحول الإنسان من كائن بيولوجي إلى كائن اجتماعي من خلال تحقيق بعض الوظائف، فعلى سبيل المثال يجب أن تفي الأسرة بحاجات أبنائها اقتصاديا من خلال توفير الحاجات المادية الأساسية، وعاطفيا من خلال منحهم الحب والحنان، وأن تحقق لهم المكانة في المجتمع من خلال منحهم اسم الأب والأم، وإذا نظرنا للدولة فسنجد أنها تحقق هذه الحاجات لأفرادها، فالحاجات الأساسية تقوم بتوفيرها في صورة مساكن وسلع تموينية وأدوية أساسية في أسواقها، والإشباع العاطفي تحققه لهم من خلال الولاء والانتماء، والمكانة الاجتماعية من خلال الجنسية التي تمنحها لمواطنيها. وتتابع عن تأثير الأسرة في الدولة قائلة: إذا لم يجد الابن في الأسرة الحب والحنان فسيتحول إلي ابن عاق سيئ الخلق، مثله في ذلك مثل المواطن الذي يفقد الانتماء والولاء فيتحول إلى خائن أو شخص ضار بدولته، ومن هنا يمكن أن نرى كيف تؤثر التنشئة السليمة داخل النواة البسيطة للمجتمع (الأسرة) في الشكل الأكبر للمجتمع (الدولة).
حقائب أسرية
وعن توزيع الأدوار بين الرجل والمرأة تقول د.نادية: المشاركة بينهما هي عنوان النجاح الأسري، ولكن إذا أردنا أن نقول على سبيل المجاز أي الأدوار أنسب لكل منهما فنستطيع من خلال منظور الدولة أن نقول إن وزارة التربية و التعليم تسند للمرأة في غالبية مراحل العمر، حيث تكون الأم هي الأقرب لمتابعة دروس الأبناء وواجباتهم المدرسية، وبالطبع يشاركها الأب في ذلك، ولكن غالبا ما يكون له الدور المكمل وليس الفاعل بحكم انشغاله في العمل، إلا أن هذه الصيغة قد تأخذ منحنى مغايرا في المرحلة الجامعية. وتستطرد: نستطيع أن نقول إن العلاقات الخارجية للأسرة تنقسم إلى نوعين؛ فالأقارب والأهل يمثلون الدول العربية، وغالبا ما تجيد المرأة التنسيق معهم، بعكس الأغراب والأصدقاء البعيدين عن الأسرة فنجد أن الأب قادر على تحقيق مصلحة الأسرة في التعامل معهم من خلال خبرته في التعامل مع المجتمع الخارجي بحكم خروجه المستمر للعمل. أما فكرة الضبط الاجتماعي بالأسرة توضح د.نادية أن هذا الأمر متعلق بالرجل والمرأة على حد سواء، غير أن الرجل غالبا ما يرسم ملامحه العامة مع المرأة ويفوض لها سلطة تطبيقه أثناء غيابه، ثم يقوم بالمتابعة وهو ما يشابه فكرة تفويض السلطة بالدولة من قبل راسم السياسات ومنفذها.
لا مساس بالأدوار
وتتفق كل من سعاد حسونة –مديرة مدرسة– ود. عبد الفتاح ماضي بقسم العلوم السياسية بجامعة الإسكندرية على أن تنشئة الأطفال على المشاركة في اتخاذ القرار الذي يمسهم –طبقا للسن والوعي– هو السبيل الأمثل لتحقيق فكرة الشورى والديمقراطية بين أفراد الأسرة جميعها. فيرى د.عبد الفتاح ماضي أن الدولة الحديثة تقوم على فكرة الرأي والرأي الآخر، الأمر الذي مازال غائبا عن كثير من المجتمعات الشرقية، لذلك يجب في رأيه أن تتشكل السلطة التشريعية في المنزل من خلال المشاركة بالرأي بين جميع أفرادها، على ألا يعني ذلك اختلال كفة الميزان بين صلاحيات الرجل والمرأة، لأن المؤسسة التشريعية في الأسرة تختلف عن الدولة لذلك يرى أن الأب سيظل دوما هو رئيس المؤسسة التشريعية في الكيان الأسري. وتؤكد مديرة المدرسة بأن مشاركة المرأة من خلال عملها في الإنفاق داخل الأسرة لا يعد مبررا لسحب صلاحيات الرجل، فإذا كانت مسئولية الإنفاق بالأساس تلقى على الرجل فإن مساعدة المرأة له يساعدها على تصور حجم العبء الملقى عليه، الأمر الذي يؤهلها إلى إدارة اقتصاد الأسرة بشكل أكثر كفاءة. ويشير كمال محمود –الباحث القانوني بكلية حقوق جامعة الإسكندرية– إلى أن تصور الأسرة لكيفية اتخاذ القرار يحدد إلى حد كبير درجة نجاحها، فالأسرة التي تتخذ قراراتها بناء على رأي واحد فقط مثلها مثل الدولة التي تفتقد التعددية فكلاهما بالتأكيد سيفقد ميزة وجود آراء متعددة تثري الفكرة المطروحة للنقاش أو القرار، ويؤكد على أن هذه التعددية يجب أن تسير وفق مرجعية يتفق عليها الطرفان لتكون بمثابة الدستور في الدولة، وهي في حالة الأسرة المسلمة كتاب الله وسنة رسوله.