أحكام وتشريعات في تنظيم الأسرة المسلمة من كتاب التفسير في ظلال القرآن للأستاذ الشهيد سيد قطب
نحن في هذا الدرس مع جانب من دستور الأسرة . جانب من التنظيم للقاعدة الركينة التي تقوم عليها الجماعة المسلمة , ويقوم عليها المجتمع الإسلامي . هذه القاعدة التي أحاطها الإسلام برعاية ملحوظة , واستغرق تنظيمها وحمايتها وتطهيرها من فوضى الجاهلية جهدا كبيرا , نراه متناثرا في سور شتى من القرآن , محيطا بكل المقومات اللازمة لإقامة هذه القاعدة الأساسية الكبرى . إن النظام الاجتماعي الإسلامي نظام أسرة - بما أنه نظام رباني للإنسان , ملحوظ فيه كل خصائص الفطرة الإنسانية وحاجاتها ومقوماتها .
وينبثق نظام الأسرة في الإسلام من معين الفطرة وأصل الخلقة , وقاعدة التكوين الأولي للأحياء جميعا وللمخلوقات كافة . . تبدو هذه النظرة واضحة في قوله تعالى[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون). ومن قوله سبحانه[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون). . ثم تتدرج النظرة الإسلامية للإنسان فتذكر النفس الأولى التي كان منها الزوجان , ثم الذرية , ثم البشريةجميعا[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة , وخلق منها زوجها , وبث منهما رجالا كثيرا ونساء , واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام . إن الله كان عليكم رقيبا). . (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا). . ثم تكشف عن جاذبية الفطرة بين الجنسين , لا لتجمع بين مطلق الذكران ومطلق الإناث ولكن لتتجه إلى إقامة الأسر والبيوت: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة). (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن). . (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقو الله واعلموا أنكم ملاقوه . وبشر المؤمنين). . (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا). .
فهي الفطرة تعمل , وهي الأسرة تلبي هذه الفطرة العميقة في أصل الكون وفي بنية الإنسان . ومن ثم كان نظام الأسرة في الإسلام هو النظام الطبيعي الفطري المنبثق من أصل التكوين الإنساني . بل من أصل تكوين الأشياء كلها في الكون . على طريقة الإسلام في ربط النظام الذي يقيمه للإنسان بالنظام الذي أقامه الله للكون كله . ومن بينه هذا الإنسان . . والأسرة هي المحضن الطبيعي الذي يتولى حماية الفراخ الناشئة ورعايتها ; وتنمية أجسادها وعقولها وأرواحها ; وفي ظله تتلقى مشاعر الحب والرحمة والتكافل , وتنطبع بالطابع الذي يلازمها مدى الحياة ; وعلى هديه ونوره تتفتح للحياة , وتفسر الحياة , وتتعامل مع الحياة .
والطفل الإنساني هو أطول الأحياء طفولة . تمتد طفولته أكثر من أي طفل آخر للإحياء الأخرى . ذلك أن مرحلة الطفولة هي فترة إعداد وتهيؤ وتدريب للدور المطلوب من كل حي باقي حياته . ولما كانت وظيفة الإنسان هي أكبر وظيفة , ودوره في الأرض هو أضخم دور . . امتدت طفولته فترة أطول , ليحسن إعداده وتدريبه للمستقبل . . ومن ثم كانت حاجته لملازمة أبويه أشد من حاجة أي طفل لحيوان آخر . وكانت الأسرة المستقرة الهادئة الزم للنظام الإنساني , وألصق بفطرة الإنسان وتكوينه ودوره في هذه الحياة .
وقد أثبتت التجارب العملية أن أي جهاز آخر غير جهاز الأسرة لا يعوض عنها , ولا يقوم مقامها , بل لا يخلو من أضرار مفسدة لتكوين الطفل وتربيته , وبخاصة نظام المحاضن الجماعية التي أرادت بعض المذاهب المصطنعة المتعسفة أن تستعيض بها عن نظام الأسرة في ثورتها الجامحة الشادرة المتعسفة ضد النظام الفطري الصالح القويم الذي جعله الله للإنسان . أو التي اضطرت بعض الدول الأوربية اضطرارا لإقامتها بسبب فقدان عدد كبير من الأطفال لأهليهم في الحرب الوحشية المتبربرة التي تخوضها الجاهلية الغربية المنطلقة من قيود التصور الديني , والتي لا تفرق بين المسالمين والمحاربين في هذه الأيام ! أو التي اضطروا إليها بسبب النظام المشؤوم الذي يضطر الأمهات إلى العمل , تحت تأثير التصورات الجاهلية الشائهة للنظام الاجتماعي والاقتصادي المناسب للإنسان . هذه اللعنة التي تحرم الأطفال حنان الأمهات ورعايتهن في ظل الأسرة , لتقذف بهؤلاء المساكين إلى المحاضن , التي يصطدم نظامها بفطرة الطفل وتكوينه النفسي , فيملأ نفسه بالعقد والاضطرابات . .
وأعجب العجب أن انحراف التصورات الجاهلية ينتهي بناس من المعاصرين إلى أن يعتبروا نظام العمل للمرأة تقدما وتحررا وانطلاقا من الرجعية ! وهو هو هذا النظام الملعون , الذي يضحي بالصحة النفسية لأغلى ذخيرة علىوجه الأرض . . الأطفال . . رصيد المستقبل البشري . . وفي مقابل ماذا ? في مقابل زيادة في دخل الأسرة . أو في مقابل إعالة الأم , التي بلغ من جحود الجاهلية الغربية والشرقية المعاصرة وفساد نظمها الاجتماعية والاقتصادية أن تنكل عن إعالة المرأة التي لا تنفق جهدها في العمل , بدل أن تنفقه في رعاية أعز رصيد إنساني وأغلى ذخيرة على وجه هذه الأرض . ومن ثم نجد النظام الاجتماعي الإسلامي , الذي أراد الله به أن يدخل المسلمون في السلم , وأن يستمتعوا في ظله بالسلام الشامل . . يقوم على أساس الأسرة , ويبذل لها من العناية ما يتفق مع دورها الخطير . . ومن ثم نجد في سور شتى من القرآن الكريم تنظيمات قرآنية للجوانب والمقومات التي يقوم عليها هذا النظام . وهذه السورة واحدة منها . .
والآيات الواردة في هذه السورة (البقرة ) تتناول بعض أحكام الزواج والمعاشرة . والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والمتعة . والرضاعة والحضانة . .
ولكن هذه الأحكام لا تذكر مجردة - كما اعتاد الناس أن يجدوها في كتب الفقه والقانون . . كلا ! إنها تجيء في جو يشعر القلب البشري أنه يواجه قاعدة كبرى من قواعد المنهج الإلهي للحياة البشرية ; وأصلا كبيرا من أصول العقيدة التي ينبثق منها النظام الإسلامي . وأن هذا الأصل موصول بالله سبحانه مباشرة . موصول بإرادته وحكمته ومشيئته في الناس , ومنهجه لإقامة الحياة على النحو الذي قدره وأراده لبني الإنسان . ومن ثم فهو موصول بغضبه ورضاه , وعقابه وثوابه , وموصول بالعقيدة وجودا وعدما في حقيقة الحال !
ومنذ اللحظة الأولى يشعر الإنسان بخطر هذا الأمر وخطورته ; كما يشعر أن كل صغيرة وكبيرة فيه تنال عناية الله ورقابته , وأن كل صغيرة وكبيرة فيه مقصودة كذلك قصدا لأمر عظيم في ميزان الله . وأن الله يتولى بذاته - سبحانه - تنظيم حياة هذا الكائن , والإشراف المباشر على تنشئة الجماعة المسلمة تنشئة خاصة تحت عينه , وإعدادها - بهذه النشأة - للدور العظيم الذي قدره لها في الوجود . وأن الاعتداء على هذا المنهج يغضب الله ويستحق منه شديد العقاب . إن هذه الأحكام تذكر بدقة وتفصيل . . . لا يبدأ حكم جديد حتى يكون قد فرغ من الحكم السابق وملابساته . ثم تجيء التعقيبات الموحية بعد كل حكم , وأحيانا في ثنايا الأحكام , منبئة بضخامة هذا الأمر وخطورته , تلاحق الضمير الإنساني ملاحقة موقظة محيية موحية . وبخاصة عند التوجيهات التي يناط تنفيذها بتقوى القلب وحساسية الضمير , لأن الاحتيال على النصوص والأحكام ممكن بغير هذا الوازع الحارس المستيقظ . الحكم الأول : يتضمن النهي عن زواج المسلم بمشركة , وعن تزويج المشرك من مسلمة . والتعقيب: (أولئك يدعون إلى النار , والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه , ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون). . والحكم الثاني : يتعلق بالنهي عن مباشرة النساء في المحيض . . وتتوالى التعليقات في هذا الأمر فترفع أمر المباشرة وأمر العلاقات بين الجنسين عن أن تكون شهوة جسد تقضي في لحظة , إلى أن تكون وظيفة إنسانية ذات أهداف أعلى من تلك اللحظة وأكبر , بل أعلى من أهداف الإنسان الذاتية . فهي تتعلق بإرادة الخالق في تطهير خلقه بعبادته وتقواه: (فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله . إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين . نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم , وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه . وبشر المؤمنين). . والحكم الثالث: حكم الإيمان بصفة عامة - تمهيدا للحديث عن الإيلاء والطلاق - ويربط حكم الإيمان بالله وتقواه , ويجيء التعقيب مرة: (والله سميع عليم). . ومرة: (والله غفور حليم).
والحكم الرابع: حكم الإيلاء . . والتعقيب: (فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم . وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم). .
والحكم الخامس: حكم عدة المطلقة وترد فيه تعقيبات شتى: (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن . إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر). . (والله عزيز حكيم). .
والحكم السادس: حكم عدد الطلقات . ثم حكم استرداد شيء من المهر والنفقة في حالة الطلاق , وترد فيه التعقيبات التالية: (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا , إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله , فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به). . (تلك حدود الله فلا تعتدوها , ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون). . (فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا , إن ظنا أن يقيما حدود الله , وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون). .
والحكم السابع حكم الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان بعد الطلاق . ويرد فيه: (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا , ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ; ولا تتخذوا آيات الله هزوا ; واذكروا نعمة الله عليكم , وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ; واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم). . (ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر . ذلكم أزكى لكم وأطهر . والله يعلم وأنتم لا تعلمون). .
والحكم الثامن: حكم الرضاعة والاسترضاع والأجر . ويعقب على أحكامه المفصلة في كل حالة من حالاته بقوله: واتقوا الله , واعلموا أن الله بما تعملون بصير . .
والحكم التاسع : خاص بعدة المتوفى عنها زوجها . ويعقب عليه بقوله: (فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف , والله بما تعملون خبير). .
والحكم العاشر: حكم التعريض بخطبة النساء في أثناء العدة . ويرد فيه: (علم الله أنكم ستذكرونهن . ولكن لا تواعدوهن سرا , إلا أن تقولوا قولا معروفا . ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله , واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه , واعلموا أن الله غفور حليم). .
والحكم الحادي عشر : حكم المطلقة قبل الدخول في حالة ما إذا فرض لها مهر وفي حالة ما إذا لم يفرض . ويجيء فيه من اللمسات الوجدانية: (وأن تعفوا أقرب للتقوى . ولا تنسوا الفضل بينكم . إن الله بما تعملون بصير). .
والحكم الثاني عشر: حكم المتعة للمتوفى عنها زوجها وللمطلقة . ويرد فيه[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين). .
والتعقيب العام على هذه الأحكام[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون). .
إنها العبادة . . عبادة الله في الزواج . وعبادته في المباشرة والإنسال . وعبادته في الطلاق والانفصال . وعبادته في العدة والرجعة . وعبادته في النفقة والمتعة . وعبادته في الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان . وعبادته في الافتداء والتعويض . وعبادته في الرضاع والفصال . . عبادة الله في كل حركة وفي كل خطرة . .
ومن ثم يجيء - بين هذه الأحكام - حكم الصلاة في الخوف والأمنحافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين . فإن خفتم فرجالا أو ركبانا , فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون). .
يجيء هذا الحكم في ثنايا تلك الأحكام ; وقبل أن ينتهي منها السياق . وتندمج عبادة الصلاة في عبادات الحياة , الاندماج الذي ينبثق من طبيعة الإسلام , ومن غاية الوجود الإنساني في التصور الإسلامي . ويبدو السياق موحيا هذا الإيحاء اللطيف . . إن هذه عبادات . وطاعة الله فيها من جنس طاعته في الصلاة . والحياة وحدة والطاعات فيها جملة . والأمر كله من الله . وهو منهج الله للحياة . . والظاهرة الملحوظة في هذه الأحكام أنها في الوقت الذي تمثل العبادة , وتنشىء جو العبادة وتلقي ظلال العبادة . . لا تغفل ملابسة واحدة من ملابسات الحياة الواقعية , وملابسات فطرة الإنسان وتكوينه , وملابسات ضروراته الواقعة في حياته هذه على الأرض . إن الإسلام يشرع لناس من البشر , لا لجماعة من الملائكة , ولا لأطياف مهومة في الرؤي المجنحة ! ومن ثم لا ينسى - وهو يرفعهم إلى جو العبادة بتشريعاته وتوجيهاته - أنهم بشر , وإنها عبادة من بشر . . بشر فيهم ميول ونزعات , وفيهم نقص وضعف , وفيهم ضرورات وانفعالات , ولهم عواطف ومشاعر , وإشراقات وكثافات . . والإسلام يلاحظها كلها ; ويقودها جملة في طريق العبادة النظيف , إلى مشرق النور الوضيء , في غير ما تعسف ولا اصطناع . ويقيم نظامه كله على أساس أن هذا الإنسان إنسان ! ومن ثم يقرر الإسلام جواز الإيلاء . وهو العزم على الامتناع عن المباشرة فترة من الوقت . ولكن يقيده بألا يزيد على أربعة أشهر .
ويقرر الطلاق ويشرع له , وينظم أحكامه ومخلفاته .
في الوقت الذي يبذل كل ذلك الجهد لتوطيد أركان البيت , وتوثيق أواصر الأسرة , ورفع هذه الرابطة إلى مستوى العبادة . .
إنه التوازن الذي يجعل مثاليات هذا النظام كلها مثاليات واقعية رفيعة . في طاقة الإنسان . ومقصود بها هذا الإنسان .